خريطة المقابر الجماعية

خريطة المقابر الجماعية

بئر الجية وثلاثة آبار أخرى

«حضرت إلى المنطقة دورية من مخفر قوى الأمن الداخلي وعناصر أمنية من الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل، وجرت اتصالات عبر قوى الأمن لإرسال فرق من الدفاع المدني لانتشال الجثث، وطال الانتظار دون وصول العناصر المطلوبة. بعد ذلك تبرع أحد المقاتلين بالنزول الى داخل البئر، وعمل على جمع الهياكل العظمية والجثث المهترئة في حرامات وتم انتشالها بواسطة الحبال، ولم يكن ممكناً فرز الهياكل العظمية التي تحولت الى عظام منفصلة، فيما جرى جمع الجماجم لوحدها للتمكن من إحصاء الضحايا. وبلغ عدد الجماجم المنتشلة 20 جمجمة. كذلك عثر المقاتلون في بلدة المغيرية على عدد غير محدد من الجثث الملقاة في 3 آبار في بلدة الجميلية وشوهدت الجثث وبعض الثياب البالية والأحذية، عائمة على الماء داخل الآبار»

(..)

..كما تبيّن أن عروسًا أحرقت بثوب الزفاف.

+++

مجدل عنجر

«روى مختار مجل عنجر شعبان العجمي والمسؤول عن الوقف الاسلامي: “في عام 1999 اتخذت دائرة الأوقاف الاسلامية قراراً بتجميل الموقع وشاهدنا تراباً يختلف عن التراب الموجود في التل ثم عثرنا على حوالي 25 جمجمة لرجال بالغين ثم اعدنا دفن الجماجم والعظام التي ظهرت وعثرنا على هيكل عظمي مكبل اليدين وما زالت بعض اللحوم بادية على جمجمته، وهيكل عظمي يرتدي بنطلوناً عسكرياً فأخبرت احد الضباط اللبنانيين ونصحني بكتم المعلومات…”»

++++

طرابلس (أبو سمرا): عظام عند مدخل القلعة.

«عثر عمّال تابعين لمديرية الآثار على مقبرة تحوي 4 جماجم وعظام متحللة أثناء قيامهم بالحفر أمس في منطقة أبي سمرا، عند مدخل قلعة طرابلس».

+++

عظام دير الشبانية: حيوانات نافقة أم مقبرة جماعية؟

«في ساحة البلدة، توقف الزوار أمام الكنيسة يسألون ويستفسرون. سريعاً يصل نايف الأعور وهو سائق جرافة المقبرة. يقول الأعور “رأيت أكياس نايلون تحوي جثثاً لحوالى 27 شخصاً ممددة ومصفوفة بانتظام وغير ذلك لا كلام عندي»

+++

كيف أماتت “الدولة” المخطوفين والمفقودين في تقرير من ثلاث صفحات:

 تقرير لجنة التحقيق للاستقصاء عن مصير المفقودين والمخطوفين

تقرير لجنة التحقيق للاستقصاء عن مصير المفقودين والمخطوفين

التقرير كاملًا على:

 http://www.memoryatwork.org/public/uploads/files/massgraves-doc-officialreport-20000725.pdf 

مصدر المقتطفات: http://www.memoryatwork.org

عزيزي السيد ضرغام،

وقعتُ صدفةً على الإعلان الذي نشرتَه في جريدة النهار.

لليالٍ ثلاث، أقامت السيدة جانيت الخوري، حرمك، في الفندق الصغير الذي أعمل فيه والكائن في منطقة الأشرفية. لا أعرف إن كانت السيدة نفسها هذه هي زوجتك (مرفق مع الإيميل صورة عن الباسبور طبعتها من نظام الكمبيوتر ). لكني أذكر أنها لم تكن تلبس وشاحًا صوفيًا أصفر لم تتخلّ عنه طيلة فترة إقامتها. لا أتذكر كثيرًا من تفاصيل ملابسها، لكني أذكر أيضًا أنها لم تكن تلبس البناطيل إطلاقاً. حافظت على ارتدائها للتنانير الطويلة الغامقة طيلة إقامتها. لا أعرف إن كانت معلومات كهذه تعني لك شيئاً أو تؤكّد أكثر هوية زوجتك.

ولقد أتيح لي أن أتبادل طراف الحديث معها في المطعم الكائن على سطح الأوتيل. فقد لفتني شرودها منذ اللحظة التي دخلت فيها المكان لتستأجر غرفة لثلاث ليالٍ. أذكر أنها في اليوم الأول، جلسَتْ في ساحة الاستقبال وحيدة، تحديدًا إلى طاولة قريبة من النافذة، وأخذت تحدق في مشاة الشارع طيلة الوقت.

في اليوم التالي، كعادتي بعد انتهائي من عملي، صعدت إلى بار الفندق في الطابق الأخير من المبنى لأشرب مشروبي الكحولي اليومي قبل عودتي إلى المنزل، وهناك وجدتها مرتديةً الشال الصوفي ذاته.

بعد أن طلبت مشروبي المعتاد، اقتربت منها، وسألتُها إن كانت بخير، فقد بدت لي منهكة. قالت لي السيدة جانيت إنها تعبة. جسمها كله يوجعها، قالت. ثمّ قبل أن تستطرد أكثر عن أوجاع جسمها، انتقلت لتتحدث في تفاصيل غريبة عن القمر. قالت إنها عندما تشعر بالحزن الشديد تبحث عن القمر ثم تنظر إليه، وإنها اعتادت ذلك منذ صغرها. أضافت أنها ترى أشياء مرسومة على سطحه، وكان أن أشارت إليها بالبنان، وسألتني إن كنتُ أراها، والحال إنّي لم أرد أن أحرجها فأجبتها بالإيجاب. ثم بعد أن أخذت تشرح الرسوم بشكل غريب لم أفقهه، عادت وشددت أنها تشعر بالارتياح الثابت أيضًا عند النظر للقمر، فالارتياح الثابت لا يتعارض على الإطلاق مع الإغراق المفاجئ في الحزن. وقبل أن تشرح لي ما تعنيه، وجدتُها تنهي حديثها فجأة، ثمّ استأذنت مني من دون أن تسألني شيئًا عن هويتي، وخرجت من المطعم باتجاه المصعد، عائدةً على الأرجح إلى غرفتها.

للأسف، في اليوم الثالث، كنتُ مريضاً طريح الفراش (فقد أغرقت في الشراب) ولم أداوم في الأوتيل، وعندما عدتُ في اليوم الرابع، تفقدت حالة الغرفة التي كانت السيدة جانيت قد سكنتها في الأيام الثلاثة الماضية، فوجدتُها مستأجرة من قبل آخرين، وحين نظرتُ في نظام الكمبيوتر، تأكدت أنها تركت الأوتيل في اليوم الثالث.

عزيزي السيد ضرغام، هذا كل ما أعرفه. أرجو التواصل معي عوضًا عن التواصل مع إدارة الفندق، كي لا أقع في مشاكل أنا في غنى عنها.

ملاحظة: لا أرسل لك هذه المعلومات من أجل الجائزة، فأنا مرتاح ماديًا، بل من أجل جمعك بزوجتك، لسبب أنا نفسي لا أفهمه، قد يكون السبب هو نفسه الذي دعاني إلى ملاحظة حزن زوجتك الدفين، وارتكاب ذاك الحديث على سطح الفندق، ولعله السبب نفسه الذي جعلني أستفيض في بعض من التفاصيل أعلاه، قد لا تهمّك الآن.

بانتظار ردك.

– مقتطف من الرواية الجديدة (قيد الكتابة)

رأت سمكًا في بطنها.

كانت جالسة. عندما نظرت رنا، وجدت بطنها شفافًا. مملوءًا بالأسماك. أسماك ذهبية صغيرة. لم تندهش لهذه الرؤية. كأنها كانت تعرف، أو كأنّها رأتْ السمك من قبل. لمّا تفحصت جلستها أكثر، اكتشفت أنها جالسة على حصاة كبيرة. أنها في الماء، وأنها تتنفس بلا جهد. عندما فتحت فمها، لم يدخله الماء. لم يكن بطنها فقط شفافًا. كان جسمها كله. نظرت حولها، وتابعت بعينيها سربًا من أسماك مختلفة الأنواع يسبح بألفة. مدت يدها ناحيته لتلمسه فلم تستطع أن تصل إليه.

عادت بنظرها إلى بطنها. وضعت كفيها عليه. ضغطت برفق. خرجت سمكتان ذهبيّتان منه وصعدتا ثم وقفتا قبالة وجهها، قبل أن تغادرا مبتعدتين. ضغطت أكثر، صعدت أسماك أكثر. ثم من دون أن تكمل الضغط، خرج السمك كله وأحاطت بها حاجبًا عنها الرؤية، ثم لم يمضِ وقت طويل قبل أن يحملها السرب ويمشي بها.

تكلّمت رنا. أو حاولت أن تتكلم. لكنّها لم تكن قادرة على سماع صوتها. كان صوتها يضيع قبل أن يحدث.

نظرت أمامها فلم تجد إلا الماء.

ظنّت أنها في المحيط.

لم تعرف أنها في أكواريوم.

– مقتطف من الرواية الجديدة (قيد الكتابة)

Beirut limb invite

limbo coverالرسم لجورج عزمي

/مقطع صوتي من فصل “شبكة سلوى” من رواية “ليمبو بيروت” – صوت وإعداد: ريتا خوري/

 

 “تدعوكم دار التنوير لحضور حفل توقيع رواية “ليمبو بيروت

ل هلال شومان

(مع جنى طرابلسي وفادي عادلة)

يوم الجمعة في 14 كانون الأول 2012
في جناح الدار بمعرض بيروت الدولي للكتاب
Biel

من الخامسة حتى التاسعة مساءً

(تحتوي الرواية على رسوم لفنانين عرب هم: جنى طرابلسي، فادي عادلة، براق ريما، محمد جابر، وجورج عزمي)

(( مشروع بالدعم من آفاق (الصندوق العربي للثقافة والفنون)

صفحة الإيفنت على فايسبوك: https://www.facebook.com/events/107113652790373

***

صفحة الكتاب على موقع فايسبوك: https://www.facebook.com/BeirutLimbo 

صفحة الكتاب على موقع غود ريدز: http://www.goodreads.com/book/show/16070287

“الجثث الميتة”. توقفتُ لحظة وأنا أنظر إلى هذا اللفظ. هل من جثث ليست ميتة؟ نعم. لديّ نظرية في هذا الصدد. هناك جثث غير ميتة. الجثث التي لا تشعرك بإمكانية حملها لقصّة هي جثث ميتة. البشر يختلفون حتى في موتهم. هناك منهم من  هو خافت الإضاءة، وهناك من يسطع حتى وهو بلا روح.

 كم من الجثث وصلت في اليوم الأول؟ لم تكن  كثيرة. توزّعت على مستشفيات عدة في المنطقة. لكنّ جثة واحدة من هذه الجثث كانت بألف جثة. الجثة التي تأتي مخروقة برصاصة أو إثر حادث غير متوقّع مختلفة عن جثث الذين ماتوا بأزمة قلبية أو في عملية أو حتى بالسرطان. في حالات السرطان، وهي حالات قليلة لم أشهد الكثير منها، تكون الجثة قد وصلت نهايتها هزيلة وتعبة، وبلون يفتقد اللون. الجثّة التي تأتيك بعد عملية، تكون مقطّبة، نعم. مشوّهة، لكن أُحسِن توليفها من جديد، وقدومها قد يكون منتظرًا ضمن نسبة أعداد موتى العمليات. أمّا الجثّة التي تأتي ميتة إلى المستشفى إثر حادث عنف فتكون مختلفة. لم تأتِ فقط في غير موعدها كما سائر الموتى. أتت في غير موعدها وأتت بقصّة. أتت باستثناء. ربّما يكمن اختلافها في أنّ قدومها غير منتظر، واستثنائي؟ على الأقلّ في العام الذي نحن فيه. لا أعرف. لا أعرف إن كان منطقي محكمًا، ونظريّتي مقنعة. ليس مهمًّا. استقبال الأشياء وفهمها هو شخصانيّة مطلقة. هكذا أرى، وهكذا أعتقد، وهكذا أنا أكيد. لا أعرف كيف كان الوضع ليكون في الحرب الأهلية الماضية. هل كانت الجثة المخروقة بالرصاص لتفارق الاستثناء؟ هل كانت لتفقد قصّتها بسبب لا استثنائيتها؟

من رواية “ليمبو بيروت” | تصدر قريباً

شمع العسل

تعمل ليلاً في شركة يعمل موظفوها فيها نهاراً. الضوء ملقىً فقط فوق مكعبك، وكل ما حولك مظلم. ناطحات دبي في الخارج تتوهج بالشبابيك المضاءة كخلايا سداسية في قطع من شمع العسل. ولما تقف لتمشي في الأروقة تضيء لك مجسّات السقف الضوئية الممر أمامك، لمبة إثر أخرى. لا تنتظرها لتضيء، ولا تسرع قبل أن تشعر بك. إيقاعاكما متناغمان. إنه وهم الحداثة محتفياً بك في ليلة أخرى، تستمتع به إلى آخر لمبة تنطفئ وراءك، وأنت تبتعد.

وقت مستقطَع

الكافيتريا. تقف أمام الماكينة. تضغط على “شوكو ميلك”. الأضواء في الخارج تصل الزجاج ثم تتكسر. لا تعود متحققة. كأن المكان محظور عليها. شيء ما مرتبك. ليس فقط الضوء مختلف في الخارج عن الداخل. الصوت أيضاً. هل جربت الاستماع إلى صوت البرادات؟ صوت ماكينات القهوة؟ صوت خطواتك على الأرض؟ تكتكة المجسات الضوئية فوقك؟ الطرق السريعة أيضاً تأتي مع أصواتها الخاصة. أنت تنتبه لكل هذه الأصوات والأضواء كلما كتمت الشيء في داخلك أكثر. كلما لكمته محاولاً إرساله إلى عمق لا تستطيع أن تدركه. وأنت تنتبه لأنك عرّفت الوقت، وقلت منذ اللحظة الأولى التي خطوتَ فيها داخل هذه القاعة الفارغة أنه مجرد وقت مستقطع بين انهماكين. قلت لنفسك: “لأبدأ الانتباه إذًا”. وأنت أيضاً استقطعت من وقتك المستقطع، وانتبهتَ لهذه الفكرة للتو.

1:00 صباحاً

الخطوط البيضاء المقطّعة على الأرض تتصل، ثم تنقطع من جديد. للحظة، تعدو السيارات جميعها بالسرعة نفسها، وتختفي العربات المتمردة. جوليا روبرتس تشرف على الجميع بابتسامة في الواجهة الإعلانية: “الحياة حلوة”. القطار المعلق يمشي على السكة ثم يدخل محطة الوقوف المصممة من المعدن والزجاج. الضباب يغير من لون الليل، فيترك رؤوس المباني تسبح بين السحاب وتومض بالبرق. “لحظات تَ يخفف زعل”، ينتقي “الآي-فون” بعشوائية. نهار جديد بدأ للتو على طريق “الشيخ زايد”، مصحوباً بالأغنية نفسها، المنتقاة دائماً بعشوائية. سأسمّيها، بالعشوائية المفرطة نفسها، أغنية الواحدة صباحًا.

خطوط المسّاحات

الأبراج واطئة عوجاء. تكاد تنحني فوق البحيرة الاصطناعية لتشرب ثم تنهض. كيف جمّعوا الماء هنا؟ كيف رموه؟ كيف كان وكيف أصبح؟ الأبراج لا ترى بعضها. الرطوبة تحجب عنها معرفة كهذه. الأبراج تبقى واقفة وحيدة. الخطوط التي صنعتها مساحات الزجاج الأمامي لسيارتك، بعد استخدام مُرمِل خاطئ، لم ينجح أي غسيل محطة بعد بإزالته. الخطوط صنعت حدودها وبقيت. الخطوط، ربّما، لن تُمحى.
قبل أسابيع، علقت سيارتك في الرمل. نزلتَ لتجد الدواليب مطمورة بالرمل. ظهر رجل من لا مكان، ودون أن تقول له شيئًا، أخذ يدفع السيارة ويرشدك بيديه أن تضغط على دواسة الوقود، أو أن تغير من اتجاه الدواليب. عندما أخرجك، مددت يدك إليه ببعض الدراهم، وأخذها بكل اعتياد.

تتعود على هذه الحركة. يساعدونك، فتمد يدك إلى جيبك. يحملون لك الأكياس، فتمد يدك إلى جيبك. يفعلون لك أي شيء فتمد يدك إلى جيبك. حتى إنك لو قررتَ، في لحظة صفاء، أن تتوقف عن طلب مساعدتهم، تصبح في نظرهم، ونظر نفسك، شريراً. أنت تهشّم “السيستم”. نظرة واحدة منهم تجعلك تمد يدك ثانيةً إلى جيبك. ثم تصير تزايد على التعرفة المعتادة، فأنت تظنّ أنك بذلك تصير إنسانًا جيّدًا أكثر. أنت قُدّر لك أن تحيا في عائلة متوسطة الحال، وتحمل معك كل ذنوب الطبقة الوسطى، وتشعر أنك بحاجة دائمة أن تمد يدك إلى جيبك. حتى إنهم عندما يستخدمون كلمة “مستر”، ستضطر أن تكثر من استخدام “ثانك يو”، مردفةً بـ”ثانك يو فيري ماتش”، بحسب بشاشة وجوههم. لا يمكنك أن تقنعهم بأن لا يستخدموا “مستر”. هذا سيكلفك العناء والوقت من غير جدوى، وأنت لستَ في مسلسل “رحلة أبو العلا البشري”.

الأبراج علب مستطيلة تقف مقسمة بالشبابيك. الشبابيك تصير أضواء في الليل. تلك المعتمة منها لا تراها، لكنك تعرف أنها هناك. تقدّر أماكن الشبابيك المعتمة برؤيتك لأماكن الشبابيك المضاءة المتفرقة. هذه تدلك إلى تلك. الأبراج قد تلمحها واطئة، لكن الرمل لا يتحرك تحتها، حتى أنك لم ترَ أحدًا يدوس على رمل غير الشطآن حافيًا، وهذا تظنه غريباً في بلد يحفل بالرمال. الرمل يطير فقط في الهواء، يجبرك أحيانًا على إغماض عينيك، ويحدد خطوط المساحات على زجاج سيارتك الأمامي للأبد.

(دبي)

 

+++
نشرَ هذا النص في شباب السفير

إنه العام 2112. بعد قرن من الحروب المتفرقة، بُنيَت المدينة البلّورية في بيروت. وُقّع اتفاق بين أطراف الصراع يتضمّن تحييد من لا يودّ المشاركة في الحرب المستمرّة، وإرسالهم إلى المدينة المنشأة، وساعد المجتمَع الدولي بكافة محاوره ماليًّا في إنشائها. جرى ذلك بسهولة غريبة، وتبعه توافق أطراف الصراع على الإشارة إلى المدينة الوليدة كإنجاز حضاري يعيد تلميع صورة البلد في عيون الخارج. قالوا ذلك، وواصلوا مناوشاتهم المسلّحة على حدود التجربة.

حُدّد مكان المدينة البلّورية في الوسط القديم. فبعد تدميره المتكرر على مدار المئة عام الماضية، كشف الدمار عن الأبواب السبعة المطمورة التي لطالما قرأ عنها السكّان في كتب التاريخ. كانت رمزية البقعة فائضة بما يكفي ليوافق الجميع عليها مكانًا منتقىً للمدينة الجديدة.

ظلّت القنوات التلفزيونية تواكب إنشاء المدينة حتى الافتتاح. تابع المشاهدون البلّورة ترتفع وتغطي المكان شيئًا فشيئًا، وأبقيَ على الأبواب السبعة مداخل للبلّورة. أعلمنا المراسلون أن المدينة ستغلّف بما سيسمح بصدّ أي نيران من خارجها، وبتوقيع اتفاق بين الأطراف كافة بعدم انتهاك الحدود الجوية والأرضية المرسومة، وأن كاميرات الفضاء ستبقى ترصد الحياة من خارج البلورة، مدعومة بكاميرات أخرى زرعَت داخل المدينة لمراقبة سير التجربة.

على القناة الخاصة، ترينا كاميرات الاستطلاع الفضائية الكرات الماشية داخل المدينة الوليدة. تهبط الكاميرا، ونتبيّن أكثر ما لمحناه. لا بيوت. فقط ما بقي من الآثار القديمة التي كشفها دمار الماضي القريب. لكن المساحات الخضراء كثيرة وواسعة، كما لم تكن قبلًا. هذه، تقول التغطية التلفزيونية، أنشِئت حديثَا وخصيصاً لحسن سير التجربة. وعلى هذه المساحات، نتبيّن الفقاعات الشفافة التي تحمل الأشخاص داخلها، مستيقظين كما المسرنمين في أحلام لم تكتمل.

على غلاف الكتيّب التعريفي للبلّورة، تنبض الجملة الكبيرة المنقوشة على أبواب المدينة السبع باللغات السبعة: «البلّورة تجعلك أكثر سعادة»، تحتها بخط متوسّط «أدخل البلّورة الآن»، متبوعة بخط أصغر: «إملأ طلب الاشتراك». الكتيّب يقول إن الفقاعة تقوم بكل شيء نيابةً عن راكبها. تمشي من دون أن تصطدم بجاراتها، تأتي بالأخبار غير المؤرقة التي تهمّ صاحبها فقط، وتتوجه بالراكب إلى أماكن ترتفع فيها نسبة العثور على أناس يتلاقى معهم فكريّاً أكثر. الفقاعات، يقول الكتيّب، هي فقاعات صحية، تُدخل الأكل السويّ بالمقدار الذي يحتاجه الراكب، مع الحفاظ على النكهة.

لكنّ الخروج من الفقاعة، محظور. التلامس الجسدي محظور. ستتنافر الفقاعات فيما لو قرّبها راكبوها إلى بعضها عنوةً. يودّ راكب الفقاعة أن يتواصل مع غيره، ويتعاون معه؟ هذا متاح عبر الوسائط المختلفة التي تقدّمها الفقاعات فيما عدا التطرق للمواضيع الممنوعة التي يحددها الفصل الأخير في الكتيّب (تحت بند ج)، ومن الممكن أيضًا بعدها بيع ناتج التعاون الفكريّ عند باب المدينة المخصص لينفَّذ خارج المدينة.

في الأيام التالية، ستحفل التلفزيونات بكثير من شهادات السكّان. سينظر أحد ركاب الفقاعات إلى فوق فتلتقطه عين كاميرا، ويبدأ بالحديث عن تجربته هنا، عن سعادته المستجدّة، عن انعدام يأسه وحزنه وقلقه، عن زيادة إنتاجيته، وعن تحييده عن المؤثرات المحيطة. لكنّ أحداً من المتحدّثين لن يذكر أفراد عائلته في الخارج. ولا تحدد القنوات إن كان هذا مسموحًا أو ممنوعاً، فالكتيب لا يقول الكثير في هذا الصدد. تباعًا، سيتحدّث ركّاب كثر، ويفتَح أكثر من باب واحد لدخول الوافدين الذين ستزداد نسبتهم باضطراد ملحوظ، فتشير القنوات نفسها إلى نزوح جماعي من أرض الحرب، وإلى قلق حقيقي بدأ يستجدّ بين أطراف الصراع في الخارج.

في صحف خارج المدينة، يبدأ معلّقون بمناقشة ضرورة السماح بالتلامس الجسدي، ويكتب مناضلون عن مؤامرة الحياد واللا مبالاة التي تود أن تنزع الروح من الإنسان، ويتحدّث رجال الدين عن أثر التجربة على العائلة اللبنانية عامةً والبيروتية خاصة، فيما يتساءل آخرون عن مدى فتح التجربة لكل فئات المجتمع ويشددون بيقينهم المعروف أن التجربة حكر على الطبقات المتوسطة والعليا، ويشكّك أخيرون في نجاح التجربة عامةً. يقوم كل هؤلاء بذلك، ثم يعودون إلى كتاباتهم حول الحرب المستمرّة خارج المدينة البلّورية، فيناصرون طرفًا أول ويهاجمون طرفًا ثانيا، في الصحف نفسها.

تمر الأعوام. بتنا الآن في العام 2115. صبيحة يوم، تحفل القنوات التلفزيونية بأخبار عاجلة متلاحقة عن المدينة البلّورية. تتوقف الحرب في الخارج لأيام لمعرفة ما يحدث. يقول المراسلون إنّ محاولة الهروب الأولى في مدينة البلّور حدثت. مزّق شخص فقاعته وخرج منها، وتبعه آخرون. وجّهوا كلامهم للكاميرات فوق، أشاروا بأصابعهم الوسطى في عين الكاميرا. رآهم عموم الناس في الخارج، لكنّ البث على القناة المخصصة انقطع فجأة. فوراً، تستنفَر الأطراف المتصارعة على حدود المدينة، وتسجَّل خروقات محدودة، لكن الإتفاق يعاد تثبيته، وخلال ذلك يبقى آخرون داخل فقاعاتهم لا يعلمون شيئًا، إذ تقوم وسائط الفقاعات فورًا بتنفيذ حالة الطوارئ وحجب ما يحدث عنهم، فتعتم الفقاعات، وتوقف حركتها، مغرقة الركاب في نوم عميق، قبل أن يعاد تشغيلها وإيقاظ الناس، إثر الإمساك بالمتمرّدين وإبعادهم إلى خارج البلّورة.

لكنّ الأخبار تتواتر أن كثيراً من ناس الفقاعات يزدادون حزناً مع مرور الوقت. لا يُعرَف إن كان الحزن قد حدث قبل الحادثة أو بعدها، فالدراسات كانت لاحقة على الهروب الشهير. ثمّ تبدأ موجة غريبة جديدة، إذ تعثر الكاميرات على الكثير من ناس الفقاعات موتى داخلها، رغم عدم انتهاء فترات إستهلاكها. إثر ذلك، يكتب صحافيون من خارج المدينة عن شحنات فاسدة مستوردة من الفقاعات لا تدخل الأوكسجين الكافي للركاب، لكن تجمع أصحاب الشركات سرعان ما ينفي الاتهامات، ويفنّدها تفنيداً مفصًلا.

تبقى القضية غامضة، وتظلّ التسريبات والدراسات الجديدة تشير إلى الارتفاع المضطرد في نسبة الحزن لدى ناس الفقاعات، ولا يعرَف السبب أبدًا وراء هذه الطفرة الشعورية.

على حدود المدينة، تكون الأطراف المتناحرة تستعد لنقل صراعها إلى داخل المدينة البلّورية، رغم إعلانها العكس، أما في الفضاء، فتواصل الكاميرات عملها في رصد التجربة، منتظرةً الحدث الجديد.

+++

نشر في شباب السفير

إلتفت وليد في سريره، فوجد ألفرد نائمًا في الجانب الآخر. كان فاغر الفم، متعَبًا، يضم طرف مخدته في يديه كولد يخشى ضياع لعبته المفضلة. لحظ وليد أنّ ألفرد اكتسب وزنًا مقارنةً بلقائهما الأول. رأى جرحَ خاصرته في الجهة الأقرب إلى ظهره، ووشم مفصل قدمه، ومشروع كرشه المقبل. بان له في نومه أربعينيًا، يعود من عمله كل مساء مرهقًا، يداعب طفله وهو شبه نائم، ثم ينضم لزوجته في السرير. هجمت الصورة على وليد، ثم تضخَّمت. هل من الممكن أن يؤسس ألفرد عائلة؟ هل من الممكن أن يؤسس هو عائلة؟

بدت الفكرة ضربًا من المستحيل.

 عندما طلب منه ألفرد أن ينتقل للعيش معه في منزله، عارض. قال إنّه لا يقيم علاقات. فلنبقَ كما نحن. نلتقي، ننسى هموم نهارنا، ننبسط وننام. إذا عشنا معًا، نخنق بعضنا. نأتي بهموم الخارج إلى الغرف. “خلّينا هيك”، قال. غرباء. نخجل كلما التقينا. وتأخذنا دقائق نمضيها في أسئلة سخيفة عن الفترة التي لم نلتقِ بها. “خلّينا هيك”، قال. آتي أنا من كاراكاس إلى كليمنصو عندك كلّما أردنا أن نلتقي.

+++

من رواية “ليمبو بيروت”، تصدر قريبًا 

أخاف عندما أجدني أتعرّف على أناس كثر.

كأن الإيقاع عندي يختلط، فأجدني فجأة محاطًا بالجديد. الجديد مؤرق في غموضه، فكيف به واضحاً وسهلاً. شيء ما غير صائب. كيف صار التعرف على الناس سهلًا هكذا؟ لا أعرف، لكن شيئًا ما يظهر لي خاطئًا. فأنا لطالما تعبت حتى حددتُ هؤلاء الناس قليلي العدد الذين أحيطهم بيوهم حتى غير متشابيهن، وأنا أتعامل أتعامل معهم باختلاف. فقد أسرّ بأسرار غبيّة لأول، وأتفادى الكلام عن التفاصيل الجنسيّة مع الثاني، أو أحاول أن لا أعبّر عن آرائي الثقافية العميقة لثالث أعهده لن يفقهها.

هذا ما أحاول شرحه.

أنا مع هؤلاء الأشخاص المحدودين، أتلوّن من دون أن أنتبه. أقصر نفسي على أجزاء معهم. أنا لستُ كلّي معهم. وهذا يردني ثانيةً إلى كل هؤلاء الأشخاص الذين فجأة صاروا يحيطون بي. من أين أتوا؟ كيف ظهروا؟ هل أنا أخاف لأني أعرف الآن أن مزيدًا من الجهد ينتظرني في علاقاتي بهؤلاء؟ ولماذا أشعر بالضغط أن كنت أشعر بدءاً أنهم غير مرغوب بهم حولي؟ ربما لأن الشعور هذا مختلف عما سيحدث؟ أعني. من الممكن أن تشعر بعدم رغبتك في أن يتواجد أناس معينون حولك، لكن هل يعني ذلك أنهم سيعتزلونك؟

على الأرجح لا. الحياة معقدة أكثر.

أخاف على إيقاعي. أخاف من العمل الكثير. العلاقات عمل كثير. استثمار. ربما هي صورتي العامة التي أتوخى الحفاظ عليها؟ ربما هي تلك الصورة التي إن تهشّمت ستنتقل من أول إلى ثانٍ إلى ثالث إلى رابع حتى تعود لتصلني فأعرف بها وأستهجن؟ كيف أخرِج نفسي من هذه الدوامة؟ كيف كان الكتاب يعتزلون العالم ثم يكتبون؟ كيف كانوا يسحبون أنفسهم فجأة، يفرّغون ما امتصوه ثم يعودون كأن شيئًا لم يكن؟

الحياة معقدة، على الأرجح . أقول، وأواصل جهدي للحاق بالعدد المتنامي للأشخاص الذين يظهرون حولي في حياتي. لو كان هناك زر توقفلكانت الحياة أسهل استخدامًا، ولكنت تفاديت كثيرًا من الخطوات الناقصة الذي يفرضها هذا الهلع من طفرة الإيقاعات الجديدة حولي.

(كتبت في حرب تمّوز 2006، على ما أذكر، وتصلح في حالة سوريا، فالقاتل قاتل، والتطهير تطهير، والعقاب الجماعي عقاب جماعي)

+++

نصيحة اليوم

خود بالك من إخواتك، إذا صار لي شي“.

الأصابع

استيقظ صباحاً. قبل أن يبدأ نهاره، أخذ يعد أصابعه.

الكاميرا

كمش الكيس البلاستيكي ، تحسَّسه كما يشكِّل معجونة ثم رفعه أمام الكاميرا مؤكداً : “بعدو عايش، بدو عايش“.

لو كان حياً، هل كان ليقبل أن يتحسسه أحد بهذه الطريقة؟

الصبابيط

بدأت الحرب وكثرت الصبابيطعند عتبات البيوت الخارجية.

الكيس البلاستيكي

في حرب تموز، تعلَّم كيف يوضِّب الجثث في أكياس بلاستيكية.

قمل

رؤوس ثلاثة وماكينة تجتاح الشعر المغبّر باعتياد غريب. يسقط شعر الأول فيهرول ناحية الملعب. يلحقه الثاني. ينتظر الثالث بحرارة لكن الماكينة ابتعلت ما يكفي من الشعر لتتوقف عن العمل. يبقى الولد في كرسيِّه مثبَّتاً رغماً عنهينتظر. هو لا يلمح إلا الطابة.

في حديقة الصنايع

سئِمَت البكائيات. تتجه إلى حديقة الصنائع. تفترش الأرض كما غيرها ويتجمع حولها الأطفال. تبدأ بالغناء، فيشاركها البعض إلا من شقيّ لا يزال يتسلـَّق الشجرة القريبة. رأسه إلى الأسفل الآن.

الفطور الجماعي – سهل البقاع

تبتلع أحشاؤه بعضاً من الفطور الجماعي. يفعل غيره الشيء ذاته. تطل حاملة المنايا بلا إنذار مسبَق. يبتلع الفطور الجماعي بعضاً من أحشائهم المتناثرة. لا يسأل عنهم أحد فهم لا يحملون الجنسية إياها. وحتى لو حملوها، لحظة تكثر المجازر يتحول الموتى أرقاماً غير مؤكدة.

اللَّغَن

.. وفي اللَّغَنالموجود في سْطَيْحةالدار ماءٌ وصابونٌ وثنايا ثياب تبتلع السائل شيئاً فشيئاً. واللَّغنبين ساقي عجوز فيما يداها ترفعان الثياب بثِقلها المتنامي مع الابتلال. تلحظ فجأة الماءَ المتلوّنة أحمر. تنهض وتتجه إلى شباك غرفته تنظر فتراه نائماً بفانيلته القطنية البيضاء في سريره المجاور للحائط على وجهه تعب البارحة واضحٌ. تدخل ثم تجلس إلى جانبه. تنتظر منه أيّ حركة تمكّنها من تفحّص أجزاء مخفية مجسده. تتأكد أن لا أحمر هناك فيهدأ نبضها. وبعد أن تتأكد، تحاِذر أن لا توقظه تحضِّرالقهوة الثقيلة في المطبخ وتعود لتجلس قربه .تشرب فنجانها المملوء ببطء محسوب، وتغطي الباقي في الركوة لفنجانه الفارغ الموضوع جانباً. تنتظره أن يستيقظ بنفسه ليخبرها عن دم الصديق أو.. العدو.

الوردة
تسقي الصغيرة وردتها في باحة المدرسة المنقولة إليها يومياً، وتنسى صخب ما خلف الغيوم. وتصحو ذات نهار لتجد الوردة قد فقدتْ إحدى أوراقها فتطلب من عاملة “الأن جي أوالاتصال بوالدها… حالاً.

الطريق
.. ثم التصقَتْ الجثث المحروقة بالزفت وللحظة اتَّحَدَتْ ألوانها بلون الطريق قبل أن تستعيد لونها مع تجمهر الفلاشات البيضاء.

الجدار

على الجدار بقايا صور انتخابية وغزل مشطوب وشتائم رُشَت في ليل ومقولات اعتزاز وبقايا أجساد ودماء التصقَت وجفَّتْ.

انتهيت من شرب الويسكي الاسكتلندي. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف، والسماء داكنة وملطخة بالرمادي. كان عليّ أن أسلّم قصتي عند منتصف النهار. لبستُ القفازات في كفيّ، هبطتُ بحذر سلّم الطوارئ، وحررتُ دراجتي من موقفها. سيكون مسروراً من ظهوري. سقتُ دائراً حول الشارع، وصعودًا وهبوطاً في شارع “ساميت”، بحثاً عن أثر لسترته المنتفخة. كانت الشوارع فارغة. ومعظم الثلج قد ذاب، لكنّ طبقة جليدية غطت الطرق، فقدتُ ببطء. بعيون ملذوعة ونفس ضبابي يخرج من فمي، اتجهتُ إلى وسط المدينة، ماراً على عشب الكلية. كان العشب متجمداً بشدّة حتى أن عجلتي دراجتي أخذتا تلتقطه. توهجت الأضواء الخافتة من وراء ستائر نوافذ المنازل. في شارع “واشنطن”، عصفت ريح مفاجئة بفروع شجرة الدردار فحلّت أوراقها معوّمةً الأوراق إلى تحت بكثافة وبطء وصمت.

كنتُ في منتصف الطريق على الجسر عندما رأيتُه. توقفت. كان عند ضفة النهر. لم أتمكن من تبيّن وجهه ولكنه كان هو، قصيراً وصغير الرأس في سترتي المنتفخة. وقف مع متشرد، كلاهما يحدق في برميل بنزين يشتعل. تكثّف الدخان، وتجسّم. لثانية، توقفتُ عن التنفس. عرفتُ بيقيني المريض ما فعله. الرماد الذي اتخذ حجماً أكبر بفعل الريح، ابتعد عني إلى أسفل النهر. ربت هو على كتف الرجل، ثم وصل إلى جيبه الخلفي، وسحب بعض المال منه ثم وضعها في يدي الرجل الضخمة. بعدها صعد ضفة النهر، ورآني. امتلأتُ برغبة كادت أن تغرق قلبي، وكانت يداه فارغتين.

لو كنت عرفتُ ما عرفتُه في وقت لاحق، لم أكن لأقول له الأشياء التي قلت. لو كنت عرفتُ، لم أكن لأعلمه أنه لم يفهم، لأنه اتضح أنه فهم. لو كنت عرفتُ، لم أكن لأخبره أن ما قام به كان لا يغتفر، وأني تمنيتُ أن لا يأتِي أبداً، أو أن لا يكون أباً لي. لكنني لم أكن أعرف. كل ما رأيته، منتظراً هناك، شاعراً بتغير الرياح، رجلاً مقبلاً باتجاهي في سترة متضخمة للغاية، فاركاً يديه السوداوين، متنقلاً بين بقع الدخان ودوامات اللهب المخضّب، وقد دمر نفسه، مجدداً، باسمي. كان النهر وراءه، والريح ملأى بالحمض. نظرتُ بعيداً في الطفو البطيء للضوء، أسفل النهر. على حافة الجليد، لمع الضوء في بثور كبيرة منتفخة. كانت الماء، حيث تنقلت البثور، سوداء ومضفّرة. عرفتُ حينها أن سطح النهر يحتاج لساعات، وأحياناً لأيام، ليتجمّد مبقياً على جلده مثالياً في العالم البلّوري، وعرفتُ أن بالإمكان تحطيم هذا العالم بحجر صغير مسقَطاً مثل مقطع لفظيّ واحد.

+ ترجمة سريعة للمقطع الأخير من قصة “الحب والشرف والعزة والشفقة والرحمة والتضحية” لنام-لي من مجموعته القصصية “القارب”.

لقراءة القصة كاملةً، هنا

«..وقد خطر لي السفر إلى بلاد الناس». وإذ وصلْت الى هناك، وقفْتُ في الساحة. كان كل شيء ساكناً وفارغاً. عرفت أنّ شيئاً ما ليس على ما يرام. لم تكن الساحة تنذر بأي حركة. حتى إنني كنتُ متأكداً أنّ الوقت متوقف. أخذتُ أفتّش عن ساعة عامة، وصرت أنتقل من ساحة إلى أخرى ومن شارع إلى آخر. لكنّي لم أجد الساعة، وفكرت أن الغياب هذا غريب وغير مفهوم. إذ كيف يمكن أن تسكن المدينة من دون عقرب ساعة ثابت؟ وكيف يمكن أن يتوقف كل شيء من دون موعد مقبل أنتظره؟ وكيف أنتظر تغيّر الثبات من دون أن أكون متيقّناً أن الوقت سيمشي لاحقاً؟ زاد من شكّي هذا أن لون النهار كان غير، حتى إني تحفّظت على وصفه بالنهار. ولم يكن ليلاً أيضاً. كان لون الضوء غير، وألوان الأشياء في الساحات غير. كيف يعيش الناس في بلاد الناس على هذا النحو؟ بل هل يعيشون أصلاً؟

وأنا أمشي، اصطدمْت بشيء صلب ووقعْت. ملقىً على الأرض، نظرْت ورائي لأجد حلقة. فقمْت واقتربْت منها وأخذْت أشدّها حتى طار الرمل عنها وبان باب خشبي في الأرض. شدَدْت الحلقة حتى فتحْت الباب ورميْته على مصراعيه إلى الجهة الأخرى محدثاً سحابة من الغبار. رأيْت درجاً تحت. وقفْت متحيراً شكاكاً. أنزل أو لا أنزل؟ نظرْت إلى ظلي ورائي على الأرض وخطوْت إلى الأسفل. درجة، درجتين، ثلاثاً، ثمّ وقفْت عند الرابعة والتفتّ إلى الأعلى لأجد ظلي واقفاً في مكانه. لم يتبعني، بل إنه تراجع إلى الوراء. هرب.

واصلْت خطوي. أخذت أتلمَس الجدار وأنزل. كبطل في قصة أطفال مرسوماً برداءة مفرطة نزلْت. كنغمة نشاز في أغنية عاشت مرة واحد فقط، نزلْت.

لمّا وصلْت إلى الأسفل، وجدتْني في باحة مصنوعة من الخشب. كان الناس مخبوئين هنا في حالة غريبة. معظمهم مضطجع على أربع، لا يستخدم الأرجل، ومكوّم فوق بعض. كأنهم في تلك الحالة التي تفصل الحياة عن الموت. لا هم أحياء، ولا هم أموات. كانوا يصدرون أصواتاً غريبة لا أفهمها. اختلطت جملهم على مسمعي. وإذ أخدتُ أمشي بينهم في رواق خشبي بدا أنه مصنوع خصيصاً لهذه الغاية، أمسكـَتْ يدٌ بكعب رجلي فتوقفْت. وجدت شاباً يافعاً مضطجعاً على الأرض. وسط ضجة كلام الناس الأخرى سمعتُ جملته لي. قال:

  • – هل تخاف عليك أمّك؟

لحظتُها عرفتُ أن أحداً اغتال الوقت، وأن هؤلاء الناس سيموتون عند عودتي. عرفتُ أني أمشي بالعكس، وأرحْت نفسي بالقول إني الآن في حلم. لكن، لم يسعني إلا أن أستغرب عندها: هل باتت الأحلام تأتيني من المستقبل، لا من الماضي؟

* الجملة الأولى في النص من كتاب «ألف ليلة وليلة».
– نشر النص في “شباب السفير”

١- “ساراوند سيستم”

جعلتُ أنظر إلى المشهد من الشرفة. كانت مقدمة السيارة قد تهشّمت بالكامل، وسيارات الإسعاف والشرطة تملأ المكان. تجمّع خلقٌ كثيرون. بعضهم كان يساعد واكتفى آخرون بالتفرج. لكنَّ شيئاً بان غريباً في كل ذلك. لم أستطع تحديده في البداية، ثم ما لبثَتْ الملاحظة أن صعقَتني. كانت الموسيقى تصدح بصوت عالٍ من السيارة المهشّمة. جُرِح من جُرِح ومات من مات فيها، وعاش الراديو صامداً. هذا “ساراوند سيستم” لا يموت، فكّرت وحضن كفّاي كوب القهوة الساخن أكثر.

عاجل:

“وضعْتُ دماً
على وجهي
ليظنوا
أني متّ”.

٢- أغمضَتْ عينيَّ

كان عمري أشهراً، ومرّ والداي بسيارتهما بالحاجز الإسرائيلي على طريق صوفر. أوقفهما أحد الجنود الإسرائيليين. لا أذكر بالطبع ما الذي حدث، لكني أحفظ من قصة أمي التي تكررها على مسمعي دائماً أن الجندي دار حول السيارة، وعلى الأرجح طلب الأوراق أو “تـَنَمْرد” قليلاً، ثمّ وقف عند النافذة المفتوحة قرب أمي وأنا في حضنها، ونظر إليّ. ما أعرفه هو ما أخبرتني به أمي. قالت إنها غطّت لي عينيّ حتى لا أراه، لكني لم أعرف – ولم تقل لي – إن كان الجنديّ لاحظ، وفهم حركتها.

عاجل:

“كنت أرتجف
كثيراً
وخطر لي
أنهم سيلاحظون”.

٣- عام السباغيتي

هاروكي موراكامي كتب قصة قصيرة عن عام كئيب. سأرويها مجدداً باختصار. وضع راوي القصة في غرفته وحيداً. صلته الأساسية بالخارج تلفون ثابت. يأكل كل يوم السباغيتي. خزائن المطبخ ملأى بعلبها. يصحو متأخراً، ولمّا يحن موعد الغداء، يفتح علبة ويسقط محتواها في ماء ساخن، فتتمدد المادة الصّلبة وتلتوي حتى تصبح جاهزة، ثم يضيف إليها الصلصة المعلّبة، ثمّ…
مهلاً. الحكاية ليست هنا.
الرجل معزول، ويبقى هكذا حتى الجزء الأخير، عندما تبدأ القصّة فعليّاً برنين الهاتف الثابت. يتذكر الراوي تلك اللحظة – بعد أشهر – وجود الهاتف، فهو كان قد قطع علاقاته تدريجياً بالآخرين. يرفع السمّاعة بعد تردد، ويجد على الطرف الآخر حبيبة صديقه، تسأله عنه.
“أين هو؟”. يجيبها: “لا أعرف”. “لقد انفصلنا”، تقول. “أها”، يقول راوينا. “أنت مشغول؟”، تسأل الفتاة. “أها. أصنع السباغيتي”. “مشغول بالسباغيتي؟”، تضيف مستغربة. “أها. نعم”. “هل من الممكن أن نتحدث؟”، تُصرّ. “لا، أنا مشغول”. “مشغول بالسباغيتي؟”. “نعم. أحتاج أن أركز”. “حسناً”، تقول الفتاة بعد فترة صمت. “حسناً”، يعقّب هُوَ. “اتصل بي لو قام بالاتصال بك”، تطلب منه. “حسناً”، يقول راوينا.
يقفل الراوي السماعة ويواصل طبخ السباغيتي. يفكر قليلاً في الاتصال الذي خرق إيقاع حياته لكنه لا يلبث أن يواصل أيامه برتابة: يفتح العُلَب نفسها، ويحضِّر الصحن نفسه. ثمّ في مشهد أخير من القصة، يرينا هاروكي حقلاً إيطالياً شاسعاً مملوءاً بسنابل القمح الصفراء التي تموّجها الريح، قبل أن يسأل منهياً بما معناه: “هل تستطيعون أن تتصوّروا كم كان سيُذهل الإيطاليون لو عرفوا أن ما كانوا يصدّرونه ذاك العام كانت الوحدة خالِصةً؟”.

عاجل:

“سرقوا ثلاثة تلفزيونات
وكمبيوتر،
ثمّ استعدّوا
للرحيل”.

٤- حفلة إرغام

يتعلق الأمر بالعنف، أو بقدرتنا – نحن البعيدين عن الأحداث – على “تحمّله”. لا أقصد لا الدم ولا الجسد. تخطينا ذلك منذ زمن، وبات عرض جثثنا ودمنا على الشاشات وفي صحفنا “عادياً”. الأمر غير ذلك. الأمر يتعلق أكثر بهذا التحوّل المفاجئ العنيف في إيقاع حيواتنا. الأعنف من التحول نفسه هو فقداننا للسيطرة. لمّا تختلط عندنا الأخلاق، بالمشاركة، برد الفعل، بالدفاع، بالصّمت. نُرمى في النار من دون أن نختار، ولا نلبث أن نتململ بعد فترة، ونسأل في لحظة شكّ: ما الذي نضيفه هنا؟
نحن في حفلة إرغام، نُرغَم فيها على الإحساس بما لا نود أن نشعره، في الوقت الذي لا ننتقيه. وهو – على صعوبة التحديد – إرغام قد لا يأتي من داخلنا. إنه شيء نعتقد – على الأقل، نعتقد – ينتهكنا من الخارج. وبرغم أننا نؤثّر فيه قليلاً أو حتى لا نؤثِّر فيه، إلا أنه يأبى إلا أن يؤثر فينا. الأمر أشبه بأن يطيح حدث غير متوقّع عادات ظهيْرات العُطَل الأسبوعية، ويمسح كل التفاصيل التي ترفدنا بنوع من الأمان. الاستقرار ليس أن لا يحدث شيء. الاستقرار هو أن نرتاح للإيقاع، حتى ونحن نغامر.
.. وهنا يأتي دور من خُلِقوا فقط لتعنيف إيقاع حيواتنا. فيرموننا في المعركة الوسخة، ويقتلون من نعرفهم ومن لا نعرفهم، ويرفعون من الكلفة، موصلينا إلى تلك الحالة التي يُمسي فيها عناق عادي كفيل بأن يجعلنا ننهار ونجهش بالبكاء، من دون أن نقدر على تحديد السبب.

عاجل:

“لِمَ تسألوني
من هم؟
أنا أعرف
من هم.
كلنا نعرف
من هم”.


* الجمَل العاجلة المقطّعة في نهاية المقاطع هي مقتطفات من شهادة لصبي في الحادية عشرة نجا من مجزرة الحولة، وأدلى بها لصحيفة “الغارديان”، مع إعادة صياغة محدودة.

+++

نشر النص في موقع “شباب السفير”.

 ما الذي أخاف منه؟ جعلتُ أسأل نفسي هذا السؤال. فكرت بالأشياء المحسوسة الكثيرة التي أقرف منها، كقرون استشعار مخلوق غريب أو حشرة. لكي وجدتُ هذا خوفاً مضبوطاً أساسه القرف لا الخطر. وقلتُ قد أكون أخاف أكثر مني، مما في داخلي. أحياناً أجلس أفكر كيف تمشي السوائل في أوعيتي الداخلية، وفي احتمال أن يتوقف الجريان. أفزع من ورم يبدأ فيَّ ويتضخم ثمّ ينتشر حتى لا أعود أنا. ما الذي يحدث عندها؟ تفرغ الساعة من الرمل؟ هذا يحيلني إلى خوف آخر لديّ من الوقت. هل أستخدم الزمن كما يجب؟ في الأحلام، يقال إن الزمن مطاط. فيما لو صحّ ذلك، لِمَ إذاً أرتعب دوماً من ذلك الحلم الكلاسيكي الذي أشعر فيه أني أهوي من علوّ من دون أن أتبيّن من وإلى أين أسقط. كيف أشعر بالاختناق كل مرة رغم درايتي بهذا الحلم المكرَّر حد الملل؟ هل أخاف إذاً من الإعادات؟ أينتهي كل شيء، ونعود بعدها لنعيد هذا كله على النمط نفسه الذي خبرناه؟ عرفتُ: لا يخيفني العدم لو أتى، تخيفني الإعادة من دون خيار.

 +++

 – شهادة عن الخوف طلبها مني أحد الأصدقاء ممن يحبون باراك أوباما والجاز والنبيذ الاحمر وقهوة الكورنيش وأشياء أخرى (نبقي إسمه بالطبع مبهَماً)


تعالوا نُشَخْصِن الأمور كثيراً.
عندما نظرتُ إلى صورة باسل شحادة، تذكرتُ رواية “رالف رزق الله في المرآة” لربيع حابر. في الحياة، انتحر رالف قبالة الروشة. في الرواية، وعندما يعرف الراوي بالخبر، يتذكر أن رالف مرّ بجانبه مرّة في مدخل مبنى “النهار” من دون أن يتكلّما. ينظر الراوي إلى صوَره، يتحدث إلى زوجته، ويقرأ مقالاته التي نشرها في “ملحق النهار”، قبل أن تلفت نظره خاصةً مقالة شهيرة له عن الفريز.
عندما نظرتُ إلى صورة باسل، تساءلتُ بدوري عن فاكهته المفضّلة. كنتُ أعرف أني لن أجد جوابي في أيّ من شهادات أصدقائه المكتوبة. لم أعثر إلا عليه يبتسم لي في الصورة، وطفا نَمَش وجهه على وجنتيْه وأنفه أكثر.

 النَمَش

 النَمَش هو أثر الشيء في غيره، والنَمَش خطوط النقوش من الوَشْي ونحوه، والنَمَش بقعٌ على جلد الوجه تخالف لونه وأكثر ما يكون في الشُّقْر، والنَمَش – أخيراً – هو بياضٌ في أصول الأظفار يذهب ويعود.

 “لينين” vs “غوغل”

 لباسل صورتان قرب دراجة نارية. واحدة تظهره جالساً على الإسفلت مسنداً ظهره إليها، وأخرى بجانبها تظهره قافزاً فاتحاً ساعديه في نور المغيب الذي استحالَ ظلالاً عليه. لِمَ كان يفتح ساعديه؟ ولِمَ تلازمه الدرّاجة في الصورتين؟
للدراجة حكاية. كنت أكيداً. البحث أوصلني إلى بورتريه لرنا زيد تلاحق فيه رحلة باسل على دراجته من دمشق إلى نيودلهي. “غوغل مابس” نفسه يضيع عندما تضغط له على زر “الدراجة” وتكتب له من “سوريا” إلى “الهند”. يقول إنه لا يستطيع أن يحسب الاتجاهات. باسل إذاً كان يعرف أكثر من “غوغل مابس”؟ أم إنّ دراجته النارية (سمّاها “لينين”) عرفت أكثر منه ومن “غوغل”؟
من يعرف أكثر عن “لينين” غير باسل؟ من يجيب عن أسئلة من نوع: هل كان يرمي النكات عنها وحولها؟ هل لبطها يوماً ما لأنها رفضت أن تعمل؟ هل تركها مرّة على قارعة طريق، وشتمها ومشى قليلاً ثم توقف والتفت، ثم عاد يمشّيها ويمشي جنبها؟ هل نَجَتْ “لينين” من تلك الرحلة الطويلة؟ وما الذي حصل لها بعد موته؟ أخذها أحد غيره؟ تهشّمت، أم إنها لا تزال تقبع في كاراج بيت العائلة؟

 كانَ يوم عطلة

 في فيلم إسباني، ولمّا تعرف بموت زوجها، تقوم الأم بأخذ ولديها إلى المركز التجاري. توصلهما إلى غرفة اللعب وتجلس صامتةً تراقبهما يلعبان. بعد أعوام، عندما يسألها أحد الولدين مستهجناً عن سبب ذلك الفعل يوم موت أبيه، تجيبه الأم ببساطة: “لقد كان يوم عطلة”.
الأرجح أن باسل كان يحب العُطَل برغم مكابرته بغير ذلك في فيلمه القصير المسمّى “هدية صبيحة سبت”، والمقتبس من حكاية ولد نجا في حرب تموز. في الفيلم، يركّز باسل على طريقة حركة جسم الولد في السرير: كيف يضم اللحاف، كيف يحرك أصابع قدميه، كيف يتقلب من جنب إلى آخر، كيف يغيّر من إغماضة عينيه. صوّر باسل الولد بالتجزئة. على ماذا كان يفتش؟ على هذه الحركات الصغيرة التي نقوم بها بلا عمد قبل الانفجار؟
“بتعرفو شو؟ أنا بكره العطلة”، ينهي باسل فيلمه القصير على لسان الولد وهو ينظر إلى نار الحرب تقتحم بيته.

 كوب الصورة

 في الصورة، يحني باسل رأسه إلى اليمين أكثر، يبتسم ابتسامة متحفظة مطلوبة لصورة، وتتشكل تجاعيد حول فمه. عينه اليسرى تصير أضيق من عينه اليمنى، بما يلائم انحناءة رأسه. لعلها الشمس قبالته تجبره على هذا؟ ممكن، لكنَّ هذا تفصيل غير مهم. الأهم هو كيف ترفع يده اليسرى كوب القهوة وتقدّمه للمصوّر، أو ربما لكلّ من سيرى صورته على الشاشة.. بعد موته.
ما في الكوب؟ أي شراب؟

 النهاية الخاطئة

 في الرواية، يكتشف الراوي أن رالف قفز من فوق سطح مقهى “دبيبو” بعدما ظن طيلة الوقت أنه نطّ من الكورنيش. يبدو ذلك له اكتشافاً نوعياً. كان يتخيّل نهايةً خاطئة طيلة الوقت. يصعد الراوي إلى سطح المقهى وينظر إلى الصخرة أمامه والبحر تحته. هل رفع ذراعيْه كرالف عندما قفز؟ لا أذكر، لكني أتخيَّل أنه فعل.
أين مات باسل إذاً؟ ماذا لو غيرنا مكانه؟ ماذا لو أنزلناه بيروت، ومرَّ أحدكم قربه ماشياً في شارع الحمراء؟ ماذا لو ارتطم كتفك بكتفه، واعتذرتما كل للآخر، ثمّ أكملتما طريقيْكما؟
هذه قصة. من يكتبها؟

 الأمر معقّد

 “ما الذي يعنيه الوطن لك؟”، سؤال طُرِح على باسل في فيديو على “فايسبوك”.
أجاب: “هذا سؤال خطير. جوابي قد يورطك بمشاكل”. ضحك، واستدرك: “وطني؟ لا. لا أشعر أنني في وطني. أحياناً، بلى. أشعر بذلك. الأمر معقد”. قهقه باسل مرة أخيرة وطلب بودّ إيقاف الأسئلة. “هذا يكفي”، قال.

 علينا أن نجعله إنساناً

 في القصَص، تترك الجريمة دنساً مؤرقاً في نفس فاعلها. هل يكون الانتصار الأكبر إذاً أن نجعل القاتل إنساناً، فلا يقدر على السيطرة على رباطة جأشه، ويحظى وحيداً بلحظة ضعف؟ وماذا يحدث عندها؟
سيشعر كثر بالارتياح عندها، من دون أن يعرفوا لماذا. قد تقترب أمّ من أولادها وتقبّلهم، أو يفوّر آخر القهوة ثلاث مرات لحبيبته، أو ربما يقوم ثالث بتقطيع الخضار قطعاً صغيرة لصحن سَلَطة. هؤلاء كلهم، سيبتسمون بهدوء.
نحن عندما نبتسم وحيدين، فإنما نفعل ذلك لأن شيئاً ما جميلاً حدث في مكان ما من هذا العالم وأحسسنا به. ليس مهماً أن نعرف تفاصيله. يكفي أن نشعر بوجوده.
+++
نُشِر هذا النص في جريدة السفير وموقع شباب السفير.


 أن نخطو في الشارع، فتتقدمينني، أو العكس، أو أن تتجاور رجلانا. أن أجلس على مقعد حجري وأنظر إليك تبتعدين. أن يقطع جلستنا صديق عابر فيمنعنا من مواصلة حديثنا. أن نشرب الشاي معاً، أو أن نجرّب أن يتذوق كلانا ما في كوب أو في صحن الآخر. أن يرى أحدنا كيف يتحادث الآخر مع آخرين من دون أن يكون جزءاً من الحديث، أن ينظر أحدنا إلى  المنهمك  بالحديث، ويلاحظ كيف تتحرك عضلات وجهه. أن نرى أنفسنا نتحادث على الهاتف مع الناس، فنلحظ اعوجاج أسناننا أكثر، أو نتأكد من لا كمال ضحكتنا، ونحدق في بثور ظهرت البارحة في وجهينا. أن ألاحظ كيف تستخدمين ساعديكِ مراراً أوأن تحفظي كيف يستوي كتفاي وأنا أمشي. أن يتسيد اللون المشهد، فنرانا لابسين لبنطالين متسخين أو فقدا رهجهما اللوني، أو تجعلكا. أن تقترب منا قطة أو كلب فنمسد على ظهريهما أو نأنف فنبتعد. أن ندخل سوياً المحلات، وننتقي معاً أشياءً كثيرة. أن نختلف ونجد أنفسنا جزءاً من مشكل سخيف مع آخرين. أن ننتصر للتسوية التي تحتمها عوامل برّانية.

 كل هذا لا يحدث عن الويب ووسائل الاتصالات. كل هذا لا يحدث في العلاقة البعيدة.

 في  وسيلة الاتصال، يمسي الدخول والخروج أكثر جذرية. أكثر صلابة. تدخل بكبسة زر، ترحل بكبسة زر. في “الحياة” تستمع بالظهور والرحيل، تشاهدهما، تجعلهما تفصيلين أساسين ضمن تفاصيل في مشهد. يصبحان أغنية لا تنتهي فجأة، تسمع الكوبليه الأخير منها يتردد ويعاد كل مرة أخفض من السابق حتى يموت الصوت. هكذا نظهر ونختفي خارج وسيلة الاتصال:  شخصاً يبتعد وراء منعطف أو في منحدر في مشهد نهائي كلاسيكي من فيلم  بكادر ثابت . أعرف كل ذلك. أعرفه كله. كتبته فوق، وقلتُه لكِ. أعرف وأنتظر هذا التوتر الأول لحسمين يتحركان على مقربة أو على مبعدة. أعرف، لكني أعرف أيضاً أن ما بيننا غير. أنا أعرفكِ فعلاً حتى لو لم تصدقيني ورأيتِ أن هذا مخالف للمنطق. ما المنطق؟ خارج الاتصال ليس الستاندرد بالضرورة. ماذاً لو صمتت المشوِّشات المحيطة؟ فكري في الصمت. في جلسة هادئة لا ينتهكها أي صوت. فكري بالجمال.

بناءً على كل ما سبق،  المجد للويب ووسائل الاتصالات التي تكرهين. 🙂

 أعد نفسي معك بالأحلام التي اعتزلتني منذ زمن. أقول، سأحظى بالحلم الذي لطالما انتظرته. الحلم الذي يقاطع تماماً الآن ويتخطّى الانتاج الرديء المقتنص بسرعة للحاصل من غير إثبات.

 أميل أيضاً إلى القول إن الحلم سيكون ذا ألوان غريبة في لا جزْمها. ألوان تقف عند حافة التفاصيل ولا تتخطاها. من قال إننا نشرف على الحكاية ولا نشتبك بتفاصيلها؟ هل قال ذلك أحد، أم أنني أبتدع ذلك؟ لا يهم. أعرف أن كلانا لا يهتم لا بالعقدة ولا بالحل. نحن أكثر انشغالاً بالبدايات. حتى العُقَد، ننظر اليها بكونها بداية لتفاصيل ما. حتى الحلول لا نعهدها خواتم.

 أحلم معك بحلم بألوان غريبة، ليست داكنة جداً ولا براقة جداً، ولا مكان فيه للظلال الذي يفرِّق بين لون وآخر. الألوان تطوف، وأنا أبقى عند بداية الحلم، لا أغوص فيه. ورغم ذلك يعدو الزمن، وتحدث الأشياء وتتراكم التفاصيل. هذا الثبات متحرك، (أقول داخل الحلم). هذا الحراك لا يلتزم الإيقاع كما يجب، (أضيف أيضاً داخل الحلم). ولمّا أعود فجأة الى الوراء ألحظ أن كل شيء جامد وأن ما أراه صورة جامدة. وأجدني لا أنظر وحدي اليها، بل أنت تنظرين أيضاً معي، نحن واقفان خارج نفسينا، نرانا ولا نعرف إن كنا نحن أيضاً جزءاً من بداية ما، وثبات ما في صورة ينظر إليها آخرين. ولأجل هذا الاحتمال فقط، نبتسم في الصورة.. لغيرنا. 

 اليوم، قرأت قولاً لسلافوي جيجيك.

كتب يقول: “الكلمة هي قتل الشيء، ليس فقط بالمعني الأوّلي في تضمين غيابه بتسميه الشيء، نعامله كغائب، كميت، مع أنه لا يزال موجوداً لكن فوق كل شيء بمعني تشريحها الراديكالي: الكلمة تشطر الشيء، تنزعه من الغروز في سياقه الصلب، تعامل أجزاءه المكوِّنة كـكيانات بوجود مستقل: نتكلم عن اللون، الهيئة، الشكل، ..إلخ، كما لو أنهم يملكون كيان مكتفي ذاتياً”.

البُعد بيننا يعطيني معنى آخر لفقرة جيجيك. فإذا ما تغاضينا عن كلمتين من الكلمات الواردة أعلاه: “الراديكاليو ككيانات” (وهما كلمتان تصلحان أكثر لحلقات النقاش السياسية اليسارية أكثر من خاطر نهاري مرتبط بكِ)، لا أستطيع إلا التفكير بالأعوام الماضية عندما أصل إلى عبارة كميت، ما يجعلني أتساءل فعلياً عمّا أفعله معك؟ هل أرمي فيكِ زمناً سابقاً؟ وهل تفعلين أنتِ المثل؟

ماذا نفعل عندما نتكلم؟

نكون داخل الشيء؟ تحت الطغيان؟ من أين تأتي هذه الإبتسامات والضحكات التي نملأ بها ثواني صمتنا بين موضوع وآخر؟ متى نبتسم؟ متى نضحك؟ ما الفرق؟ كيف يتصرف عقلانا؟ كيف يومئ رأسانا قليلاً إلى الأمام ثم إلى الجانبين؟ كيف نهرب لمّا نصمت فننغمس بحركات التوتر التي تستعين بكل أطرافنا وحواسنا؟

هل أضع فيكِ كلاماً؟ هل أفقد الجمل؟ ونحن نتحادث، أشعر أني أمام فقرة طويلة لا تنتهي. فيها الكثير من الفواصل، والنقاط، والكثير الكثير من أدوات الوقف على أنواعها، لكن ليس هناك أول سطر ثانٍ.

فما الذي نفعله فعلاً عندما نتكلم؟ أفقد فيكِ أشياء وتفقدين فيّ أشياء؟ ثمّ؟ أينها، هذه الأشياء التي فقدت؟ ألم نتبادلها؟ أين هي؟ هل تسطو على الساعات التي لا نتكلم فيها؟ هل تعطينا خميرة جيدة لمحاولات الاستعادة والإغراق في التحليل؟

الكلمة تشطر الشيء، يقول جيجيك. الكلمة تُفقِدنا الشيء، أكاد أقول، وأضيف فأسأل: كيف لم تسمح نفسي لي قبل ذلك أن أختبر هذا الشعور بالفقدان الذي يجعلني أبتسم وحيداً في المصعد؟

لكن ماذا لو سألها أحد آخر؟ كيف كانت لتجيب؟ ستحتاج الإجابة يوماً ما، مؤكد. حتى لو لم تحتاجها، ألا ينبغي عليها أن تشرح لنفسها على الأقل؟ لكن من أين تبدأ؟ من كلمة بحرفين تعني البحر أم أنها ستنتهي هناك؟ أم من أغنية أم كلثوم؟ من أين تملأ الشبكة؟

ستحاول. ستقول أن هناك أشياء صغيرة. تفاصيل تبدو تافهة للبعض بالقدر الذي تبدو مهمة للبعض الآخر. وربما أكثر، قد تستفيض فتقارن هذه الأشياء بتلك الأغنيات التي تـُشعِر سامعها بمتعة خاصة و تجعله يعتقد أنها تُغنّى له خصيصاً، أو تعيد له صوَراً ولحظات، حتى تكاد تنقله للمطرح نفسه الذي شهد الأحداث الماضية. فيحصل على لهفته ذاتها، ابتسامته ذاتها، كرنشات الوجه ذاتها. أحياناً حتى، لا حدث يستعاد. أحياناً، تُرتجَع تعابير الوجوه فقط.

كمستمع الأغنية، لا تفقه سلوى الكلام مباشرةً . تركّز في اللحن أولاً. اللحن كجوّ محيط. كشكل خارجي. كورَق هدايا. الأمر يشبه الإدمان. هي هكذا، إن أحبّت شيئاً أو شخصاً ذابت فيه حتى الهيام، إلى أن صار جزءاً أساسياً منها، وبعدها، بعدها فقط، تنتبه فتقوم بالتحليل.

– من “شبكة سلوى”، الفصل الثالث من الرواية الجديدة.

قالت إن الاشياء حولنا محايدة. إنها سواء. نحن من نرفعها إلى مراتب عليا أو نهوي بها إلى تحت. حتى التقزز، هو تعريفنا. حتى الأخلاق، هي تعريفنا. الصح تعريفنا، والخطأ تعريفنا. ونحن من ننهمك بتعريف غيرنا من دون أن يعني ذلك التعرّف على من عرَّفناه. نحن نعقّد الأشياء ونبسّط العلاقات فيما بينها. نقوم تماماً بعكس الحقيقة. الأشياء بطبيعتها بسيطة، لكن تتواجد ضمن حلقة علاقات معقدة. أنت لمّا تكتب، تعقد الأشياء، وتبسّط العلاقات. الرواية تبسيط، قالت. هل تستطيع أن تنكر؟ حتى تلك القصص التي لا تبتغي الاسقاط الاجتماعي والسياسي وتسعى للترفيه حصراً، أكثرها يبسّط في علاقات الشخصيات. لعلّ بساطة العلاقات هي البديل المرغوب؟ حتى الميلودراما الرخيصة تجدها تمتِع أشياء مخفية في نفوسنا فنتماثل معها. أنت تروي لتّمتِع؟ لكن هل الحياة ممتعة؟ لا تعرف؟ ربما؟ لا؟ غير مهم. المهم أنك عندما تفعل ذلك كل الوقت، لا عندما تكتب فقط، تخسر الكثير من العلاقات المعقدة، والكثير من بساطة الاشياء. أنت تبني المشهد الكامل، فتُقصي نفسك عن أشياء أخرى ليس لها مكان في كمالك.
+++
مقطع من المشروع الحالي قيد الكتابة. 

*بمناسبة الحديث عن سوريا*


يقع فريقان ينظُران للحراكات الشعبية في الدول العربية في خطأ مماثل. ففيما يعتقد فريق أول أن النهايات السعيدة آتية لا محالة تواً بعد الانتخابات مثلاً، يغرق فريق ثانِ في مازوشية سلبية تجعل موقفه يقارب دعم النظام، وهو موقف يبنيه هذا الفريق اعتماداً على عدائيته لأحداث الغيب أكثر من عدائيته لأحداث الماضي القديم والقريب الممتد حتى الآن. الموقفان يؤمنان بحتمية الحدث الاوتوماتيكي، بكبسة الزر.

هناك فريق ثالث يعرف أن المرحلة التالية لا تعدو كونها مرحلة اكتشاف.

أطبقت الأنظمة على الرقاب لأربعين سنة أو أقل قليلاً. أوقفت الفكرة في حضور الشخص. حرمت مواطنيها من متعة اكتشاف ما حولهم. لم تترك لهم شيئاً ليكتشفوه. لقد صدَّرت لهم كل شيء بشكل موضب. فما هو معلن معلن، وسيتم اجترار كل الفاظه ومصطلحاته في السنوات العشر الأولى من الحكم الحديدي. أما ما هو مبهم ويتعلق بدواخل النظام، أو بالهوية الثقافية والدينية وربما الإثنية للمجتمع، فلا ينبغي لك معرفته.

هاكم إذاً احتمالات أحداث قد لا تودون رؤيتها قادمة، لكنها قد تحدث: لا شيء يحصل بكبسة زر. لن يختفي الفلول والشبيحة في يوم وليلة. بعض الدول ستدخل في الفوضى لأكثر من عام. ستفتعل أنظمة حروباً أهلية قد تطول. هناك دول ستخوص صراعات طائفية بل مذهبية. هناك إثنيات ستطالب بحقوقها وقد لا تحصل عليها تواً في المراحل الانتقالية.

يستثنى من هذا، أنصار الأنظمة الصريحين. هؤلاء يكونون فريقاُ يبقى مستلباً ووفياً في استلابه لحرب النظام الكونية. الحرب مع هذا الفريق تبدأ معه من فوق، لا من تحت. الحرب عندهم ضجة. مصطلحات ضخمة، اذا ما هبطت على الأرض خلفت وراءها غباراً عظماً يعمي العيون. الجماعة لدى هذا الفريق نسيج صلب ليس من المهم معرفة مكوناته. بطبيعة الحال لا يهتم هؤلاء بحال الأفراد في الجماعة، ولا بمتعة اكتشاف المجتمعات التي تعيش فيها جماعاتهم، على الأقل ليوظفوا ذلك في حربهم. فالحرب الكونية أخاذة بما فيه الكفاية ليبدو معها اكتشاف المجتمعات تفصيلاً سخيفاً وهامشياً وصوتاً يعلو فوق صوت حرب وهي تستحيل معركة وحيدة: معركة بقاء.

لكن حالة الانضباط السابقة التي فرضها النظام سرعان ما قد تزول، سيعلق هؤلاء في دوامة، ولن يستطيع البقاء فعلاً إلا أولئك الذين قدروا متعة الاكتشاف أولاً، وبدأوا بالتأسيس عليها ثانياً.

قبل أن تنقرض الديناصورات، اكتشفها أحدهم. هذا مؤكد.

هناك شيء في الضحية الخالِصة يجعلك تستقبل الحدث بارتباك، وتصير معه غير قادر على تحمل تبريرات غير إنسانية.

إذ لا يمكن لوم الضحية عن تعريفها اللاحق لاضطهاد عقود، والذي قد يقوم على أساس عرقي أو ديني. هذا رد الفعل. التركيز على التعريف اللاحق بوصفه الأساس في الحدث الحالي أو المنطلق هو بالضبط التبرير الذي يقوم به القاتل. ربما يجدر بأسئلة غير القاصدين (غير القاصدين فقط، لا أولئك المنظرين الذي يعرفون تماماً ما ينظّرون له) أن تتجه في هذا الاتجاه: من حوّل الضحية إلى ضحية أصلاً؟ من اضهدها؟ من عزلها؟ من منع انصهارها في المحيط؟ من دفعها إلى التقوقع؟ من ف تعامل معها بوصفها أقل أو بوصف حاملة أفكارها خاطئة؟ من دفعها إلى هذا التعريف أصلاً؟ (أنا ضحية مسيحيةمثلاً؟)

يكمن الفعل الأساسي لا رد الفعلفي كيفية تحول الضحية إلى ضحية أصلاً. فمن جعل الضحية ضحية هو المسؤول الأساسي عن هذا التعريف. أما لوم الضحية فهو شبيه بالتعامل مع أي حراك قائم حالياً في أي بلد عربي بوصفه نداً لنظام حَكَم منذ أربعين سنة، والتعامل مع الاثنين كطرفين حاكمين يقترفان الاصلاح والديموقراطية كما تكميم الأفواه . والمضحك أن هذه المقاربة هنا تصدّر على أنها موضوعية“. إنه الحياد والتوازن منقلباً إلى موقف لا أخلاقي ولا إنساني، مدفوعاً ببؤس التبرير لآراء سياسية لدواعي قومية أو وطنية أو عروبية او انتهازية حالية أو سابقة. وهو حياد غريب يسبق تحول الضحية الحالية (التي يتواصَل قتلها يوميًا) طرفاً في اللعبة الساسية يمكن مساءلته عندها (بعد توقف القتل).

وهناك شيء آخر في الضحية الخالصة، يجعلك غير قادر على ممارسة تهكم صرتَ تعهده أسلوباً لك. إذ أن المسالة تصير فجأة أخلاقية في الدرجة الأولى، ومعها يقارب أي أسلوب تهكمي اللا أخلاق.

عندما تدهَس الضحية الخالصة تحت المدرعات، لا تدهس جسدياً. هذه فقط صورة مباشرة جداً، انعكاس لحظي لتراكم. كليشيه صوَري لدهس اجتماعي وسياسي استمر لعقود. هذا الدهس الملتقط في الفيديوهات، يقابله استخدامٌ اعلامي وسياسي يشارف دهس المدهوس، كالإعلان أن بقاء القاتل في بلدان أخرى يوفر الحماية المفترضة لضحية مماثلة في تلك البلدان. إن هذا الإعلان تحديداًيجب عكسه ليكون: “أنا، القاتل، إن سقطت، أسقطتُ الضحية معي. أنا، القاتل، أحتمي بالضحية”. إنه حبل ملفوف نحو عنق، يسهل استخدامه ما إن تبدأ سلسلة الانتحارات.

والمسألة لا تختصر فقط في الفعل السياسي. نحن إزاء تفكير اجتماعي وديني مشوه أنتج نفسه تحت سلطة القاتل. تفكير كان يعرف عن نفسه كضحية للقاتل في سني حكمه. ومع هذا التفكير، تصبح المرأة غير المحجّبة مسيحية بالضرورة، ويصير العلماني غربياً بالضرورة، والبهائي ماسونياً بالضرورة، والمعادي للوطنية الاعلانية الرخيصة صهيونياً بالضرورة، والمناقش في ترجمة الأدب العبري مطبّعاً بالضرورة، والمحارج في كيفية وتوقيت الصراع مع اسرائيل ليبرالياً بالضرورة، إلخ إلخ إلخ. وهكذا تخرج ضحية مضهدة من زمن سابق (ضحية لم تعد خالصة) لتضطهد ضحية أخرى في الزمن الحالي (ضحية ما زالت خالِصةراميةً الجميع في حلقة عنف مفرغة تتحول فيها الضحية الأولى من ضحية سابقة إلى جلاد حالي

رغم كل هذا الوضوح، تبدو الأحداث أحياناً رمادية. نحن إزاء سرعة في الأداء مفاجِئة. لعل جزءاً من هذه المفاجأة يُردّ إلى بطء أحداث سنين عجاف سابقة صارت هي في لا وعينا الإيقاع المفترض لما يجب أن تكون عليه الأحداث.

فقط لو تنتهي الأشياء بسيطةً وواسعة كما في بعض الأفلام:فجر يبزغ، أو غروب يملأ الشاشة، فيما الشخصية تمشي وسط جلبة الشارع وتتوغل في العمق تاركةً المشاهدين وراءها، فتحيد عن الضجة المستمرة حولها، وتخلق براحاً في البعيد مع نزول التيترات.

فقط لو تنتهي الأمور كذلك.


كان السائق صامتاً. التاكسي الأبيض – الذي أصرّ علي أصدقائي أن لا أركب غيره- شق جسر العباسية المزدحم. حولنا على جانبي الجسر إعلانات ضخمة منصوبة، كثيرها يتحدث عن بكرة وعن الثورة، قليلها يذكر “الآن” أو “البارحة”، لكن الروح الايجابية التي قبضت على الإعلانات في كل مكان لم تصل إلى وجه السائق الذي لم يكن يتفوه بأي كلمة، مفضلاً أن يركّز في قيادته من الكوربة إلى وسط البلد. إنه حتى لم يستخدم الزمور مرة واحدة.
عندما سألت السائق ما هذه، مشيراً إلى بناء ضخم أسفل الجسر، أجاب باقتضاب: كاتدرائية العباسية اكبر كنيسة للمسيحيين في مصر”، وواصل صمته وتابعت أغنية الراديو مقاطعها: “يا حبايب مصر، حبايبنا”.
لا أعرف لم َعددت يومها صمته عزوفاً عن الخوض في مواضيع مرتبطة بالكاثدرائية.

***

قال إيهاب القبطي في بيت عيصم أنه يعرف العمر الإفتراضي للأشياء. إذا نظر إلى خشب، عرف متى يتسوس وإذا رأى كرسي، حسب أي عام تصدأ قوائمه الحديدية. إيهاب يحدّ موهبته بالأشياء ولا يتعداها إلى تقدير عمر الأشخاص، ويستعمل كافة أساليب الإقناع وهو يتحدث عن اضطهاد الأقباط، منهمكاً في الوقت نفسه بتركيب يد الباب الخشبية ببطء متناه. إيهاب واظب على حضور اعتصامات ماسبيرو. كان ذلك في ديسمبر 2010. أظنه كان البارحة هناك أيضاً.

***

دعني أقول لكَ شيئاً. أو لعلي لا يجب أن أقول، لكني سأجازف. أعرف أن في أوقات الحزن العميق، يبدو أي كلام بذيئاً، وتنظيرياً يأتي من علو. لكني أخاف عليك من أن تعتاد حزنك حتى لا يعود حزناً تماماً مثلي. ترداد الأشياء يوصل إلى الحياد. إلى الملل. إلى اللا شعور. وأنا فعلاً خبرت كل ذلك. خبرته كله لا لأني جبار، ولا لأني ألاحق الأشياء، ولا لأني حظيت بحرب بعكسك. لا. خبرته كله لأني ولدت بالصدفة في خرم. حقل اختبار. خرم في حروبه وفي سلامه المفترَض. لعل كل المسألة تتلخص بأننا ولدنا في خروم؟ خروم صغيرة تحوي كل هذه الأشياء الموتّرة؟ كم مرة سمعت أن هذه المنطقة على كف عفريت؟ أو أن هذه المنطقة غير مستقرة؟ أو أننا نواجه مرحلة خطيرة؟ كم مرة قيل لك أن مصير العالم يتوقف على مصير الشرق الأوسط؟

***

في فيلم هليوبوليس المصري، شخص مسيحي صامت معظم الوقت. إذا تكلّم تكلم ببطء، أو تلعثم أو بصوت منخفض. الرجل الذي يدور طيلة الفيلم في المنطقة مع كلبه، لا يحتمل سوط فلاش الكاميرا على وجهه، ولا يستطيع الابتسام، ولا التواصل مع فتاة من ملّته. إنه حتى لا يستطيع أن يحظى بفيزا لمغادرة البلد نهائياً، ينهض صباحاً فلا يستطيع أن يلبس مشايته من المحاولة الأولى.. إنه، باختصار، محبَط.

***

دعنا لا ندخل في المثاليات. نحن نعرف أن الجهل منتشر. وأن من لا يشبه العامّة سيضطهد. من لا يشبه العامة في أي شيء، دينه أو رأيه تفكيره أو حتى نظرته المختلفة إلى الأساسيات. نحن كنا واثقين أن لا شيء يتم بكبسة زر، ولا زلنا نقول ذلك. هذا طبيعي. أن لا تتم الاشياء وكأنها مسيّرة، هذا طبيعي. هذا الصعب هو صكّ البراءة. كنا حتى ربما ننتظر أن يقتَل كثيرون. لكن لماذا تفاجأت أنت؟ لماذا نتفاجأ كل مرة؟ هل هو الدم يصفعني كل مرة ويرميني في حالة الذهول كما البدايات؟ هل هو الرأس المهشّم حيث أنت يعيدك إلى قصة صديق كان سيموت محاصراً بالبلطجية؟
دعني أقول لك شيئاً ولا تزعل. خوفي صغير هنا. أصغر مما قد تكترث له بكثير. وأنا بدأت أخسر تلك القشعريرة التي تسري في ساعدي كلما رأيت الدم الذي أتجنبه بالصدفة على المواقع أو على قناة تلفزيونية عابرة. أنا في خرمي هنا، بات يتلخّص خوفي بأن أفتح الجريدة غداً وأرى بعض الكتَبة ينظّرون لنظام استبدادي آخر. سيستخدمون حزنك العام العميق جداً (لأنك تعرّفه كحزن شخصي جداً)، كممسحة قيء. تماماً كما واظبوا على استخدام فلسطين منذ ولدنا على هذه الأرض. كل هذا العنف الذي استدرجَك إلى حزنك العميق سيصبح مبرراً لإراقة دماء آخرين. هؤلاء ماذا نجب أن يفعَل بهم؟ هل يجب أن يمنَع عنهم الحزن الشخصي؟ هؤلاء؟ كيف تصفهم من دون أن تتحول سوقياً؟ وما هي السوقية أمام الدم؟ هل رأيت الإصلاحات على ظهر الرجل الثمانيني؟ إصلات سياسية مئة في المئة. لعلهم كان يحاولون معالجته من تقوس ظهره؟ لعلهم كانوا يركزون على تقويم فقرة بعينها من سلسلة فقرات ظهره؟

***

في الطائرة الخارجة من القاهرة يتواصل الصوت الأنثوي المسجّل: “لفتح الحزام، إرفع المشبك إلى أعلى”. صوت يعيد إلى ذهنك صوت زوزو نبيل في بدايات ونهايات حلقات ألف وليلة التي انتهى عمرها الافتراضي منذ زمن بعيد.
هل مكتوب علينا أن تعمِّر ممسحة القيء إلى أبد الآبدين؟
وما العمر الافتراضي للمسيحيين في مصر؟
ما العمر الافتراضي لربيع العرب، أو سمِّه ما تشاء؟
بكلمات أخرى، كيف لا نخسر القشعريرة؟

نشرت القصة في مجلة “الطريق” الشهيرة التي تعاود الصدور. لمقالات أخرى نشرت في المجلة، إضغط هنا.

1

أكاد أشم الرائحة. تخرج مني. هذه رائحتي زائدةً كما لم تكن يوماً. كيف تضخّمت هكذا؟ أحاول أن أزحزح جسمي، فلا أقوى على تحريك أي طرف. تبقى الحركة فكرة. أمرٌ أرسِل ولم ينفّذ. وحده يتحرك من داخلي. أشعر به. سائل كثّ مقيت يندفع على مهل، فيبلّل جانبي والملاءة تحتي. أصوب نظري ناحيته، فلا أتبيّن لونه. الرؤية مشوّشة وأنا أفقدها ببطء. لا تستطيع عيناي اللحاق بسرعةِ ما يحدث حولي. حتى الثابت في الغرفة يصبح مشوشاً. أجرّب أن أصف لنفسي كيف وما أرى فلا أنجح، ثم سرعان ما أخسر اهتمامي بمحاولة الشرح. أبدأ بفقدان اللون. يأتيني كل شيء بألوان غريبة ثم بلونين ثم تروح الألوان وأحظى بألوان غريبة.

لكأن هذا السائل يخرج آخذاً معه كل شيء.

أحاول أن أتكلم فيصدر مني شيء يشبه الصفير. لا أفهم ما يخرج من ثغري. أشعر بحلقي جافاً. فارغاً. أشعر بما فيه، بل بكل ما في داخلي. أصبح يداً تدخل وتتحسس جوف جسمي. تقلّب ما فيه. تخرج ثم تعود لتحفر أكثر عمقاً. أرفع رأسي. للمرة الأولى أنجح في تحريك شيء فيَّ. أنظر نحو الباب. لا أعرف أنه الباب في البدء، فالألوان الغريبة قضت على قدرتي لتحديد أي شيء، والتشويش مستمر. لعلي لا أرى بل أصِل ما أعرف وأتذكر بقليل ما أرى وأحدد الأشياء؟ لا أستفيض في الشرح لنفسي. أجده يخرج إليّ من اللا رؤية، من دون أن أعرف كيف. أشعر بالجليد للمرة الأولى، ثم تنتابني حركة عنيفة. يتحرك جسمي كله بأوتوماتيكية غريبة. أرتجّ، وتتغير طريقة خروج السائل مني. لكأنني غسالة أوتوماتكية تعمل في مرحلة التنشيف. ملاحظة تحيلني إلى انتباه أخير: هل أخرجت الملابس من الغسالة لنشرها، أم أنها لا تزال تقبع هناك؟

لا أقوى على الضحك ولا حتى على الابتسام.

2

الباب موارب، يُظهر ضوءاً خافتاً وراءه. على الأرض مساحة سوداء من الظل تمتد حتى حافة السجادة العجميّة.

لم يحرك قدميه منذ ربع ساعة. جلس هناك تضربه فوضى أفكاره. سياط، سياط. ورغم كل هذا الهجوم، لم يتحرك قيد أنملة. فقط تحركت عيناه، رغم ثبات وجهه. كان مُنحني الظهر على الكنبة، يراقب ظلّ الباب يتوسع حتى كاد يلمس قدميه. ضوء الخارج الذي أخذ يخفت دقيقة إثر أخرى غيَّر من ضوء الداخل، بل وضَّحه، ومع الإيضاح أظلمت المساحة المظللة أكثر.

أخذ يحدّق في الباب ملياً. لم يغلقه. لم يغلق وراءه باباً يوماً. يترك دائماً الأبواب مفتوحة. لا، يتركها مواربة. الموارِب ليس مشرعاً. الموارب ليس مغلقاً. لا يفكر لماذا لم يغلق الباب ولا كيف همد هنا على الكنبة بلا حراك. لا يفكر حتى بالضجة الآتية من الخارج. نعم. يلاحظ خفوتها مع قدوم الليل. نعم. يحدس أن الشارع يغيِّر صوته بتتالي ساعات النهار. نعم. ينتبه لكل ذلك من مكانه، ولكنه لا يفكر. الانتباه ليس تفكيراً. الملاحظة تظهر فجأة في الرأس. تنفجر بلا تحليل مسبق. أما التفكير فيأخذ الملاحظة ويمعن فيها تشريحاً. وهو لا يفعل ذلك الآن. لا يتعدى انتباهاته إلى شرحها. يلاحظ فقط من دون أن يسائل كيف لاحظ.

يستعيد. يسترجع ما حدث كحقيقة مثبتة. يقول لتلاميذه: “الحقيقة غير النظرية، والنظرية غير الفرضية. والاثبات فقط ما يجعل النظرية حقيقة”. يرد عليه طالب لجوج: “الآراء تأتي مع إثباتات وهذه لا تجعلها حقيقة بل تبقى آراءً رغم قوة الإثباتات”. يبتسم له ناهراً مذكراً أن هذه حصة علوم. يعرف في داخله أنه معجب بالفتى، ويتيقن أنه سينتهي دارساً للعلوم السياسية.

لكن الاستعادة تبقى استعادة، وهي أيضاً غير التفكير. لقطة تبقى بكل تفاصيلها ثابتة. هو لم يتعدى على الذكرى. لم يغير شيئاً فيها. لم يضف إليها لا عواطفه المثبتة، ولا غير المثبتة.

يواصل استعاداته. تمثل أمامه لقطات من البارحة: كتف المار على الرصيف الذي خبط به صدفة، وفم الناشطة التي تحث من يقترب منها على التوقيع، وابتسامة عاملة الكاشيير في السوبرماركت. تحضره شتائم شرطي السير الواقف على التقاطع القريب والذي لا يكف عن التلويح للسيارات بالاسراع في المرور. يسمع صوتاً. هل هذا صوت صفارة الشرطي؟ أم هذا تشويش من مصدر آخر؟ يأبى أن يتمادى في طرح سؤاله، فلا يكمله حتى. لا يفكر.

في رأسه، تعدو الأفكار تماماً مثل خط سير في شارع داخلي من شوارع بيروت، إشاراته الضوئية لا تعمل. كل السيارات فيه تنطلق في الوقت نفسه على إثر إشارة ما. قال مرة لتلاميذه في حصة العلوم إنّ الخلق أشبه بـِعَدْو سير. الحيوانات المنوية تهجم كلها في اتجاه واحد. بعضها يسقط في الطريق، والبعض الآخر يتعبه اللهاث فلا يلحق بأخوته، والآخرون يصلون كلهم. يتدافعون، يجرب أكثر من واحد حظه وواحد فقط يحظى بالهدف.

لو يقدر لفتح رأسه على الطاولة وفكر كيف أفضى به الأمر إلى هذه الخاتمة. هل هي الخاتمة حقاً أم خلق جديد؟ لو استطاع أن يقنع نفسه لقال أنه الآن داخل رأسه. لقال إنّ شيئاً لم يحدث. لقال إنّ كل هذا محض تهويمات مريضة يمر بها أكثر من إنسان في نهارات عادية.

الآن فقط، بدأ يفكر. الآن فقط، اقتنع. هذه ولادته الجديدة. نهاية أولى تتبعها نهايات. هذه فكرته الوحيدة، وصل إليها أخيراً. يتمسّك بها، ويتخلى عن الملاحظات والاستعادات. يلقي السؤاله في بئر رأسه: هل من التقاهم في الطريق البارحة جرؤوا يوماً ما على فعل ما فعله هو؟ يطرح السؤال ثم سرعان ما ينتشله من البئر. فجأة، يصير أكيداً أن الأمر يتعلق به لا بالآخرين. “هذا أنت”، يبدأ يحدث نفسه. الآن فقط، وللمرة الأولى منذ ثباته هنا على هذه الكنبة، يعترف لنفسه: “أنا من ارتكبت جريمة القتل على السرير خلف ذاك الباب الموارب”.

ينظر إلى سلاح الجريمة الموضوع أمامه على المنضدة، ثمّ ومن دون أن يطبق عليه الذهول، ينهض ويتجه ناحية الباب. يشقه فقط بالقدر اليسير الذي يمكنه من الولوج إلى الداخل. لقد وصل. لا. لقد عاد. ثم، وبحركة من يده اليمنى، ومن دون أن يلتفت، يدفع الباب وراءه. يستجيب الباب (للمرة الأولى؟) استجابةً كاملة، فتنقتل وراءه مساحة الظل الممتدة حتى أطراف السجادة، ويغلق رأسه على فكرة.

3

أراه من فوق يقف عند المدخل. ينظر إلي كما لم يفعل يوماً. لا أعرف بمَ يفكر. لم أعرف يوماً، ولن أعرف الآن. أراه في خطواته متردداً ثم حازماً. من هنا، أستطيع أن أفهم الخطوات أكثر. أحاول أن أتدخل فلا أنجح. لعل هذا غير مسموح؟ أحاول مرة أخرى فأفشل من جديد. فلا أقدر في النهاية إلا على فعل وحيد. أبثّ في رأسه فكرة:

– شفت ما أحلاني أنا وميتة؟

أرى قدميه تتوقفان عن الخطو. يجمد لثوانٍ ليست قليلة. أتابعه في بعضها قبل أن أقرر الانصراف إلى فوق.

أقول لنفسي: منذ الآن، سأكتفي بالاستعادة.

أصعد الدرج الكهربائي في إحدى محطات قطارات لندن. أرى الوحوش الكبيرة في أجسادها الصغيرة.، فأهرب محدقاً في الدرجات الحديدية حتى أكاد أقع عند الدرجة الأخيرة. ترمقني الوحوش. نظراتها تقول الكثير الذي أعرفها، وتحديقها الدائم فيّ يؤكد شكوكي، لكني لا أهتم.

أرفع ما وقع من حقيبتي الرياضية، وأسوّي ربطة الوشاح الصوفي فوق الكنزة السوداء. أتذكر كم أحب هذا الوشاح، بل كم أحب كل الأوشحة الصوفية، خاصةً المخطط منها. لدي شيء ما تجاه الخطوط. في مرة، فتحْتُ خزانتي ففوجئتُ بكمّ الكنزات المخططة التي أمتلكها. خزانتي زنزانة مساجين. ضحكتُ، وقلتُ أنني فعلاً في زنزانة.

هنا، في غرفة صغيرة ملحقة بالثلاثين متر مربّع التي أسكن فيها، أعلّق حبلاً لنشر صوري المبتلّة التي أظهّرها بنفسي. جاهدتُ لأقنع صاحب المنزل بتأجيرها لي مع الاستديو حتى قبل.  عندما أفشل في تظهير إحدى الصور أو أكون ارتكبتُ خطأ عند التصوير، أجدني أمام نتائج خرافية لم أتوقعها، وأتلذذ بناتج عدساتي.

توقفتُ عن مشاهدة الأخبار منذ شهرين أو أكثر بقليل، ثم تخليت بعدها عن التلفاز. أعطيته لأصدقاء، ووضعت إناء زرع مكانه. كنت قد تحمسْتُ قليلاً خلال الثورة الماضية، ثم عدت إلى عزلتي مواصلاً الاستمناء، وبوتيرة أسرع.

في عزلتي، أنتقي أمكنة قليلة لأقضي نهاراتي فيها: عملي، سيارتي القاطعة لأمكنة جديدة، الاستديو المُستأجر، غرفة صوري، مقاهٍ معدودة اعتدتُها، وأمكنة جديدة يمكنني أن أجد فيها تفاصيل تستحق الانتباه.

البارحة، لمحْتُ تلك الفتاة في مقهاي المعتاد. كنتُ قد خرجْتُ مبكراً كعادتي لأشرب قهوة الصباح وأتابع قراءة كتاب كافكا الذي بدأْتُه الليلة الماضية.

فكرت وأنا أحدق فيها: هل أجرّها إلى عالمي فأؤذيها قليلاً؟ الأشياء المشتركة إيذاء متبادل للطرفين. هل أريد فعل ذلك فعلاً؟

غداً، أعاود رؤيتها، وربما بعد غد أيضاً. وفي اليوم الرابع سأقترب منها وأفتتح معها حديثاً غير ذي أهمية كعادة كل الأحاديث الأولى. سأسألها ما تقرأ، فتجيبني. ستعلمني (على الأغلب) بقراءتها لكتاب سخيف، فتخسر سؤالاً أوَّل معي، وتبقى رغم ذلك تملك فرصةً أخرى لتقتحم عالمي الأسود.

سنستمر في الحديث، وقد نفلح فنتحدث دائماً، أو نكتفي بعدها بإيماءات لرؤوس والابتسامات المحسوبة لأنَّ كلَيْـنا منا قد فهم أننا لسنا مناسبين لنؤذيَ بعضنا أكثر.

بعد الفشل العاطفي، قليلٌ من النبيذ جيد. سأدخل محل الكحول. أصوّر قناني النبيذ المصطفة فوق بعضها، ثم أنتقي واحدة، وأعود بها لغرفتي. سأشربها وحيداً حتى أثمل، ويغلبني النعاس، فأنام بملابسي مسنداً ظهري للسرير، ومبقياً صور الشارع أمامي على الأرضية الخشبية.

سأحلم بمحاولة انتحار أخرى لن أنفّذها، وأواصل إعتقادي أني ممن يتكلّم عن ميوله الانتحارية، ويكتفي بالقول بلا فعل. سأواصل نقدي الذاتي (يدعونه “الهانج أوفر”)، وأقنع نفسي لحظياً بأن لولا كآبتي لما تعرفْتُ على كل تلك الكتب، ولا تلك اللوحات، ولا تلك الافلام، ولا هذه الموسيقى التي أسمعها آتية من بعيد. سأكون أكيداً في تلك اللحظة أن كآبتي صنعتْني، وصنعَتْ عالمي المعزول الصغير، الذي أحبه وأكرهه بحسب مزاج اللحظة. سأقول إن عالمي هو أنا، فأدع نفسي فيه، أبنيه، أجملّه، وأهشّمه كما أرغب، على الأقل حتى الفتاة التالية.

“بصيت لروحي فجأة. تعبت من المفاجأة ونزلت دمعتي” – عبد الباسط حمودة

غاردن سيتي. سهرة رأس السنة 2009- 2010.

حُكيَ لي أن شاباً جرّب الحشيش لأول مرة فشعر بغرابة. انقلبت عنده السرعة بطءاً، والبطء سرعة. تحدّث ثم صَمَت. خاطب محدثته. “هل أتكلم كما يجب؟ أشعر أني أسرع بنصف الجملة الأول وأبطئ في النصف الثاني حد القتل”. كان يجد الأمر غريباً، أشبه بشريط صوت متلاعَب بسرعته. “ربما عليَّ أن أتوقف عن الكلام”، قال لها فردّت: إمضِ، إمضِ، “إنت جميل وإنت محشش”.

نهض مقررا أن يتجول في أرجاء المكان. لكأنه مشهد في فيلم، فكّر. البطل يمشي، يلقي نظرة على رواد السهرة، يسمع بعضاً من الصخب العادي الناتج عن المحادثات في حلقات الواقفين الصغيرة، لا يقف معهم، ويتعداهم إلى الرواق، يمشي فيه، ويبقى الرواق مضاءً. لا يحظى بمشهده الموراكامي (نسبة للمشاهد المعهودة في روايات هاروكي موراكامي ). يميل يميناً ويساراً. تتلمس يداه الحائطين. الفودكا وبيرة ستيلا والحشيش فعلوا فيه اللازم. الأغلب أن رجل الماعز لن يظهر. الأغلب أن المصعد لن يظهر له فجأة، ولن يتوقف بين طابقين على طابق جديد.

(غلاف “أرقص أرقص أرقص” لموراكامي)

يدخل الغرفة من باب أول. تستقبله موسيقى أسانسيرات، خفيفة في أذنيه رغم صخبها في الغرفة. تمسك فتاة بيديه، تحاول ترقيصه ولكن أطرافه أثقل (أو أخف) من أن تستجيب. يتركها ويبتسم لكاميرا تقترب. يتطرف في الاقتراب من عدستها. غريب. لطالما كره الكاميرات، فما الذي تغير الآن؟ لعل الحشيش يحيل الإنسان إلى آخر، أو لعله الانسان ذاته لكن الحشيش يؤكد فقط أن الثابت هو محض.. وهم؟

يخرج الشاب من باب، ويكمل السير في الرواق. يدخل باباً آخر فيجد نفسه عاد داخل الغرفة. يدور مرتين ولا يفهم كيف يعود إلى الغرفة في كل مرة فيسأل: هل المكان غرفة واحدة؟

يفلح في الوصول إلى مكان آخر بعد ربع ساعة. يقف قرب منضدة عالية، يتحدث مع الموسيقي. يصر أنه طبيب أسنان، فيصحح له الموسيقي المعلومة: “بلعب مزيكا”. يتغاضى عن جوابه ويحدثه عن أسنانه. يفتح له فمه. يريه شيئاً فيه. داخل اللاوعي وعي كامل، أو لنقل عندٌ كامل. يكتشف الشاب -من دون أن يتخلى عن عنده- أن باب الشقة مفتوح. يهرع فيغلقه ثم يعود لطبيب أسنانه. يتكرر الأمر أكثر من مرة. يقضي السهرة في إغلاق الباب كلما دخل أحدهم. ربما، في اللاوعي، يجب أن تغلق الأبواي لتمنع تسرب التفاصيل إلى الخارج.

حسناً. للشاب مفاجأة بمفعول رجعي: لقد جرب جيم كاري ذلك قبله في فيلم، وانتهى به الامر إلى تسرب كل شيء من رأسه. كل شيء.

***

تاكس كسر الملل

في بيوت مصر، ملصقات وصور.

أحمد صوّر سواقي التاكس. كل واحد منهم وقف قرب سيارته. قال لهم أن يبتسموا. فعل أكثرهم المطلوب وزاد آخرون حركاتهم. بعضهم اتكئ على سيارته (إقرأ لغة الجسد لحركة كهذه)، والبعض الأكثر وقف أمام التاكس كأنه يحميه أو يغطيه من الصورة (هل من فرق؟). ألصق أحمد الصور أفقياً على “الحوائط” في الغرفة. (يستخدم أحمد لفظ “الحوائط” في نصوصه ولا أوافقه على صحته لغوياً. لا أعرف من فينا على حق، ولن أهرع لكتاب اللغة لأثبت النظرية. أستعينبأذني، وأذني قليلاً ما تخطئ. وربما تخطئ وأكون أنا الخاسر في المعركة اللغوية، لكن لا أهتم. أنا فقط لا أرتاح “للحوائط”).

(تاكس مصر – من الانترنت)

على “الحوائط” إذن سواقي تاكس، وروبي (أحب روبي فعلياً لا هزءاً ولي في ذلك نظرية لا يتسع المكان هنا لشرحها ). هناك أيضاً إعلانات حفلات موسيقية لفرق لم أسمع بها، و ملصق ينادي بـ”كسر الملل”. البيتلز حاضرون كما العادة. وهناك ملصق آخر لفيلم مصري تجاري غبي يدعى “آخر الدنيا” بالقرب من ملصق “نادي القتال”. أما رأس غاندي بالأبيض والأسود فيعلو أرجوحة مزركشة في زاوية الغرفة.

“هنا ستنام. على هذه الكنبة”، قال لي أحمد.

***

تشطيب لوكس

على مدخل الكنيسة التي زرتها وجدت إعلاناً مذهلاً. كان اكتشافَ نهاري. “للبيع مدفن بمدينة 15 مايو. كامل التشطيب. المساحة 15 متر”. البعض لم يفهم لِمَ ذهلت آنذاك، وأنا الآن – بعد سنتين- لا أذكر سبب ذهولي. أذكر فقط أني وحين كنت أتمشى خارج مجمع الأديان ركض ولد خارجاً من مدرسته قربي. كان يغني: “الدنيا خربانة، والخلق تعبانة. شوبرا خربانة. إمبابة تعبانة”. أذكر أني عندما سألت بنفس استشراقي سياحي عما يقوله الولد، قيل لي أن هذا غناء شعبي، فلم أعلق وحافظت على ذهولي.

***

طربوش سعد

في إسكندرية، أسأل عن زيزينيا وزنقة الستات. يضحك هيثم (أحدثه على الانترنت عيصم، ويناديني علاء. يمكن النظر للموضوع على أنه مشكلة متبادلة في حرف الهاء لولا اللام التي أصبحت همزة في اسمي الأول والميم التي انقلبت فاءً في اسم عائلتي: شوفان. ). بالنسبة لعيصم، علاء شوفان “بتاع مسلسلات”. “ارحمنا يا عم. تعال نروح عند عبدو النتن”، يقول.

وراء حدائد باب سينما مغلقة ومهجورة وجدت إعلاناً يقول: “فيلمان كبيران في بروجرام واحد” وحكمت حكمي المطلق: “كبيران” في ذاك الزمن تعني إما نادية الجندي أو نبيلة عبيد.

في تجوالي ببعض شوارع الاسكندرية استعدت شوارع الحمرا الفرعية في منتصف تسعينيات القرن الماضي. كل شيء فيها مغلق وقديم. لكني فوراً اكتشفت فرقاً: هناك مبان قديمة ذات معمار جميل بعكس بنايات الحمرا البشعة. فوراً فكرت بوسط بيروت التجاري، لكني تراجعت. بنايات الاسكندرية (والقاهرة) مسكونة لكن غير معتنى بها وإذ أسفت لحظياً لإهمالها، قفز الفارق أمامي: هنا حياة يومية على مدار ساعات النهار لا في ساعات وفترات محدودة كما وسط بيروت. (اليوم أكتشف الوسط أكثر بحكم عملي المستجد في أحد مبانيه، وبعد قراءتي لنص حسن داوود في “فيزيك” بعيداً عن حكمي هذا).

على الكورنيش، يستدير تمثال سعد زغلول باتجاه البحر. قيل لي وقتها: لم يبقَ من سعد زغلول إلا جملته الشهيرة “ما فيش فايدة”. قرأت قبل أن أعبر قرب بيت الأمة أن لم يبق منه إلا ببغاء محنط هنا. ( “حكايات أمينة” لحسام فخر من ميريت ). قيل لي إن سعد بقي فقط في أسماء الميادين التي تحمل اسمه وفي أدوار لممثلين جسدوا شخصيته في مسلسلات رمضانية نفذت برداءة تامة وبتكرار غريب.

(طربوش لبنان – يؤكـَل)

لم يبق من سعد إلا الطربوش، فكرت بتطرف. ثم وجدت سيد درويش عنواناُ لمسرح وصوراً في مكتبة الاسكندرية. وجدته حاسر الرأس بلا طربوش.

لو أردت أن أستعيد الاسقاط الرحباني المباشر لقلت أن المعركة في يناير كانت مع الطربوش. لكن الفكاهة المصرية تجعل من توظيف هذا اللفظ ثقيلاً. ط-ر-ب-و-ش. فلأستبدل طرح “الطربوش” إذاً بطرح “بابا” (وأنا لا أفصح عن جديد ). “مغامرة ” يناير كانت مع مفهوم بابا “اللي بيغلط بس بنسامحه عشانا هوة بابا”. حسناً. هذا يبدو تافهاً بالمقاييس اللبنانية. نحن في لبنان حولنا الطربوش إلى رأس شوكولاتي بكريما بيضاء في داخله. نحن في بيروت نأكل الطربوش. هذا يبدو تافهاً للبنانيين كثر، لكن إكبح فرامل استنتاجاتك عزيزي القارئ. البديل الطربوشي ليس بالضرورة أفضل. النقيض ليس بالضرورة أحسن.

***

رسالة: حاجات “باضناني”

لو قدر لنا أن نشبه ما حدث بمصر بمسلسل طويل، لقلت أن “الثورة” قامت في الفترة الإعلانية!! لنقفز سنتين. بدءاً ولأنفي عن نفسي صفة النوستالجيا التي يتهمني بها كثر من أصدقائي في المحروسة، أوجه لهم هذه الرسالة:

أصدقائي في مصر، هذه مصطلحات وحاجات “باضناني”: أخلاق الميدان، مصر الجديدة، حملة النظافة، ثورات الشباب، ثورة الفيسبوك، استقرار، عجلة الانتاج، الجيش ما يعملش كدة، كفاية مظاهرات، مظاهرات فئوية (فئوية؟)، عفاف شعيب، طفولية طرح صفحتيْ “حركة السادس من ابريل”، و”كلنا خالد سعيد” على فايسبوك.

شكراً لتفهمكم. مودتي الخالصة.

علاء شوفان.

***

“الله” والغسالة

وقفت أمام “الله”. هذا ما قاله لي عيصم الذي دخل مع آخرين مركز الأمن المركزي في مدينة نصر. هل قال لي ذلك فعلاً أم أنني ألبسه هذه الجملة التهمة؟ لا أتذكر، وعيصم يستحق تهمة لذا لا لن أشغل نفسي في التذكر الدقيق لما قال. عيصم وجد صور أصدقائه في سهرة خاصة خلال تقليبه لأحد الملفات. قال لي إنّ العناوين على الملفات مفزعة وغبية. عندما شرح لي الأمر فهمت. الناقد الذي كان يراه النظام ناقداً دائماً تحول ورقة في ملف “الشيوعيين”. “نشطاء غزة” صاروا “حماس” (مثلاً). “الناشطون” أصبحوا “مدونين” بالضرورة. صدقاً، ذكرني الأمر بمسلسلات يحيى الفخراني ونور الشريف في رمضان. معركة بين طواحين الهوا الفاسد وحلقة أخيرة في العيد. كيف تحارب الكارتون؟ (أنظر ليبيا). لعلي أكون قد تذكرت أيضاً أفلام سمير الغصيني اللبنانية الثمانينية حيث الأكشن فيها مصنوع برداءة مفرطة، حيث يظهر وسط الفيلم، فجأة، مطرب ثمانيني مروجاً لأغنيته الضاربة ومعطياً الفيلم زخماً لدى طرحه في الصالات. (أنظر مايز البياع).

هذا كان الأمن؟

(ملصق فيلم “حياتك في 65 (كلمة)” )

عندما أتابع أخبار مصر، يحضرني مشهد من الفيلم الإسباني: “حياتك في65 (كلمة)” (إشتريت الدي في دي مع عيصم في بيروت). في المشهد، يجلس فيه الشاب مع حبيبته على سطح المبنى ينظران إلى الغسالة الاوتوماتيكية تدور بما فيها من ملابس. يبقيان هناك لفترة وتلعب الموسيقى التصويرية وصوت دوران الغسالة الدور الاساسي.

شخصياً، لو كانت الغسالة تتسع لي، لفتحت بابها وانضممت إلى الملابس في دورانها.

***

“الثورة” بنت كلب

في 2010 جاء الناس إلى حفلة رأس السنة باللون الفيروزي. قالو إنه لون السنة. مضت 2010 بطيئة قاتلة. سنة تراكم ستاتيكو تسعيني وألفيني. ما لون ال2011؟ لا أعرف ولن أبحث على غوغل. في 2011، قبيل “الثورة”، أقيمت حفلة كما العادة في المكان نفسه. لم يكن الشاب المحشش هناك. للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات كسر عاداته. هذه “الثورة” استهدفته في العمق. أدارت ظهرها له عامين ولما لم يأت في المرة الثالثة، فعلتها بنت الكلب. الشتيمة جيدة وتريح.

***

“جبروت المصري” (أو ما يتعارف على تسميته بـ”أرجوحة غاندي”)

على الواجهة الزجاحية لأحد محلات الصيانة في وسط البلد بالقاهرة جملة: “المصري طول عمره معرفو بجبروته وقوته. استلم هاردك (القرص الصلب للكمبيوتر) التالف سليم بعد خمس دقائق”.

المصري القوي إذاً يصلح الهارد القديم عوضاً عن شراء القديم. عندما رأى الشاب المحشش الجملة، لم يعرف سبباً لفعل غريب كهذا. كاد أن يلوم حشيش البارحة، ثم سأل: ربما القدرة الشرائية؟ الوفاء للهارد القديم؟ البابا لا يمكن إلا أن يكون قديماً؟ أو ربما لم يحتظ المصري القوي المشهور بجبروته بهارد دسيك موازي، ويود إعادة استخراج المعلومات المحبوسة فيه؟ وهل تتأثر عجلة الانتاج بشراء هارد ديسك جديد؟

صحيح. التنظير من الخارج صعب، وغير أخلاقي. تعاملوا مع كل ما سبق كتنفيسة. تنفيسة من تفاصيل أتابعها عند أصدقائي المضافين على فايسبوك. لا أعرف. الارتياب سيد المرحلة. في الوعي واللاوعي ارتياب. الارتياب يأتي حتى مع العنف الكلامي والتأكيدات في تفاصيل معقدة لا تمشي بمنطق السبب والنتيجة أو من هو المستفيد. يعرف الأكيد منكم أن المسألة أعمق. أجزم أنكم تعرفون ولا أعرف كيف أشرح أكثر صحيح، أنا أجزم بطرح هلامي. في الوقت نفسه، تقول لي تفاصيل يومية إن الباب مفتوح بل مشرع مع النوافذ كلها. تشعرني تفاصيل أن رفاصات لا تزال تعمل. تقذف ناس خرجوا إلى داخل البيت من جديد. وهذه التفاصيل اليومية هي ما تمنعني من التوقف عن استخدام المزدوجين حول كلمة “ثورة”. ربما يجدر إغلاق الباب تماماً كما فعل المحشش؟ لست أكيداً. ربما يجدر الاحتفاظ بالذاكرة وإغلاق الباب أيضاً؟ لكن ألا يستنزف الغرق في الذاكرة الطاقة في غير مكانها؟ صدقاً لا أعرف. إنه الليمبو بين الفعل ورد الفعل. رد الفعل لا معنى له من دون فعل، والرومانسية لا تنفع. ماذا إذاً؟ إصلاح هارد ديسك قديم تالف أو الإتيان بهارد جديد؟

إنها أرجوحة غاندي. ما أجمل عدم المعرفة.

هنا، بين عائلاتنا، عادةً ما يرتَّب اجتماع عند موت شخص: في أي قبر يدفن؟ في قبر زوجته، أم قرب عظام إخوته في قبر العائلة؟ في هذه المقبرة أم تلك؟ حجم القبر؟ ممّ هو مصنوع؟ رخام أم بلاط عادي؟ نوع الخط المكتوب فوق القبر؟ نسيّج القبر بحدائد أم نتركه كما هو؟ نجعله أعلى قليلاً من المعتاد أم نبقيه على نمطه الكلاسيكي؟

هذه قرارات مصيرية تحدد وجهة الزيارات والأدعية والصلوات الآتية. الكل متأكد عند كل عيد من قبر فقيده. يأتون له بالآس، والورود والزنبق الأبيض، وفوق القبر يجلسون. بعضهم يقرأ في كتاب مقدّس والآخر ينتحب.

تماماً كما في بداية فيلم “العائد” الاسباني للمخرج الإسباني “بيدرو ألمودفار”. في المشهد الابتدائي المَلـَك: الفتيات كلهنَّ صبيحة نهار ينظفْنَ القبور. ثلاثة منهنَّ منهمكات في تنظيف قبر واحد، وأمامهنَّ كل أدوات وسوائل التنظيف اللازمة، لكن الأم الميتة ستعود لابنتَيْها في الفيلم. موتها كان خدعة.

ماذا لو كان الأمر برمته خطأ؟ ماذا لو أراد هؤلاء الموتى أن يبتعدوا فقط عنا، ونحن لا نفتأ نتقرب منهم، من صورهم ومن قبورهم؟

***

“توقف! أنتَ على وشك الدخول إلى امبراطورية الموت!”. تفاجئنا اللوحة الجدارية المعلَّقة فوق الباب المفتوح في السرداب. مضينا نمشي في دهاليز لولبية وأنفاق تحت الأرض منذ ربع ساعة. حذَّرتنا الورقة المعلقة في مدخل “كاتاكومب دي باريس” أن الزيارة غير مناسبة للأطفال وذوي القلوب الحساسة، لكننا حتى الآن لم نجد إلا بعض الجداريات التي تشرح نوع الحجر المستخدم في جدران المتاهة، أو الأبيات الشعرية التي تدور في فلك الموت.
خمسة عشرة دقيقة قبل أن نصل إلى هذا الباب المؤطر بتلك الرسالة التحذيرية.

“امبراطورية الموت”؟ ماذا يعني هذا تحديداً؟
ندخل. الصورة ما عادت أمامنا في الكتيِّب. خرجت لتتجسد وتصبح ملموسة. نحن صرنا في رواق يمتد طويلاً طويلاً والجداران اللذان نحاذر أن نلمساهما مكونان من عظام الأطراف والجماجم! هذه عظام حقيقية وضعت فوق بعضها. جزء منها يعلوه اللون الأخضر فيما اسودّت عظام أخرى وقبع بعضها الآخر من دون خدش. هنا، الجمامجم تفصل بين عظام الأطراف المرميّة فوقها أو تحتها. الجمامجم موضوعة لتشكل خطوطاً، صلباناً أو حتى قلوباً! تسري القشعريرة في الجسد ما إن نرى القلب المرسوم بالجمامجم.

نتخيّل من كان هنا يضع العظام فوق بعضها: يجزع بدايةً، ثم يعتاد العظام حد طلبه كوب شاي! يبتعد إلى الخلف بكوب الشاي الذي يحمله لينظر، ويصدر الأوامر إلى من يجمّع العظام بعضها فوق بعض. يقول له وهو يرشف من شايه الأسود: “لا. لا. قرّب تلك الجمجمة إلى اليسار. إرفع الجمجمة التالية أكثر. ضع جمجمة أخرى هنا. القلب لا يبدو واضحاً. الصليب بحاجة لجمجمة أخرى حتي يظهر أكثر. خط الجمامجم الأفقي هنا منحنٍ أكثر من اللزوم. إرفع الجمجمة قليلاً. ضع تحتها كومة من عظام الأطراف!”

هل حصل ذلك فعلاً؟ لا نعرف. هذا فقط ناتج هوس تخيلي مخيف.

في البدء، كان المشهد غريباً لكن مرحاً. ثم ومع استمرار جدران العظام يمينا و يساراً، يبدأ الشعور بالجو الضاغط رغم البرودة النسبية. لا ينقصنا إلا قطرات من الماء الرطب تسقط من سقف السرداب لتعيد سريان القشعريرة في الأجساد. الخُطى -لا إرادياً- تسرع لتنتهي من كل هذا.

الجو صامت. السياح عادة ما يكونوا صاخبين، فوضويين، يتكلمون كثيراً. لكنهم هنا محكومين برهبة المكان. الكل إمّا يتوقف لدقيقة، ويصور أو يمضي مسرعاً حتى من دون أن يلتقط صورة. يسرع، وينسى ما دفعه من تعرفة لدخول هذا المكان وما يحتِّمه عليه ذلك منطقياً من الاستفاد حد الوقت الأقصى للزيارة.

بعد هنيهة من المرور بين أكوام العظام، يمضي الفرد مسرعاً وهو يريد أن يعود إلى سطح الأرض لتنشق بعض الهواء. يمضي مبتعداً عن جدران العظام ويصعد درجاً لولبياً آخر حتى يصل لاهثاً ويقف في الخارج فوق سطح الأرض، تحت مطر سماء باريس الخفيف. يدخل صيدلية قريبة ليشتري سائلاً معقماً، يغسل به يديه من كل آثار الموت القابعة تحت، وإن لم يلمسها!

***

في نهاية رواية كل الأسماء للكاتب البرتغالي “خوسيه ساراماغو”، راعي غنم، يبدل أسماء الموتى المنتحرين على الأكفان قبل دفنهم. هكذا يضيع جسد المنتحر في قبر آخر. يأتي الأفراد ويقرأون في الكتاب المقدس فوق قبر يظنون أن فقيدهم المنتحر دفن فيه. عندما يعرف “دون خوسيه” (الشخصية الأساسية في الرواية) بذلك، يستشيط غضباً من الراعي. هو الذي يسعى طول حياته لأرشفة المعلومات المتعلقة بالموتى والأحياء، يصرخ في الراعي. يسأله كيف يسلب من هؤلاء الناس من هم ملكه؟. يجيبه الراعي ما مفاده: هؤلاء منتحرون. انتحروا لأنهم أرادوا الفرار من هؤلاء الناس تحديداً. هذا القسم أمامك، قسم منبوذ من المقبرة. قلة من الناس تزور قسم المنتحرين هذا، حتى أنّ إدارة المقبرة لا ترضى أن تدفن المنتحرين قرب الموتى الآخرين. يقومون بتصنيفهم وهم موتى. يعاملونهم كموتى ناقصين. قد يكون ما يشبه هذا التصنيف وهم أحياء هو دفعهم للانتحار. ربما. لكنّ الأكيد أنهم هربوا من هذا الصخب المحيط. ولذلك، أساعدهم فأبدل أسماءهم. يحق لهم ببعض السكينة. يحق لهم أن يهربوا من الناس الذين عرفوهم وودوا أن يهربوا منهم. هنا يمسي كل منهم أشلاءً في قبر تحت أقدام زائر أتى ليراه وهو يظن أنه يعرفه. أنا أصنع شيئاً أشبه بالمواعيد العمياء بين ميت وزائر. وحده الميت يعرف أنه لا يعرف الزائر، فيما الزائر لا يعلم مطلقاً أنه يقف أمام القبر الخاطئ. لكن هل يعرف الميت تلك الحقيقة فعلاً وهو ميت؟

يصمت “دون خوسيه”، ولما يبتعد الراعي، ينام بين القبور، ويبدل بعض الأسماء بدوره قبل أن يعود إلى بيته حيث يدور مشهد الرواية الأخير.

***

هذا في الكتاب، أما هنا، في باطن الأرض، تربض كمية مهولة من العظام العائدة لستة ملايين باريسي، تكوِّن جدراناً لسراديب مشرعة أمام الناس.

من هم هؤلاء الملايين الذين صاروا عظاماً مشرّعة بلا أسماء تحت باريس، يتفرج عليها السواح، ويلتقطون لها الصور؟ كيف أمسى هؤلاء عظاماً بلا أسماء، من دون أن يطلبوا هم ذلك؟

تصعب الإجابة على أسئلة كهذه. تضحي فقط استنكارات فات أوانها.

+++

استعادة لمقالة قديمة نشرت في جريدة السفير.



يا رجل، كم أشتاق “للفلوكة”! تعرف “الفلوكة” طبعاً! لا؟ هذا القارب الصغير الذي تجد عدداً هائلاً منه راسياً في ميناء طرابلس. أبي يملك واحداً. يؤجِّره للسياح وللزائرين. هناك، على الجهة المقابلة للميناء، تجد هذا المحل الذي يبيع “السمكة الحرّة”. أقسم أنها أطيب “سمكة حرّة” تذوقتُها في حياتي. السر في التوابل، أظنّ. من الميناء، كنا نأخذ “الفلوكة” أنا والشباب حتى جزيرة الأرانب. صدقني إن قلتُ لك أنّ الماء هناك غير الماء. سآخذك غداً إلى بحيرة قريبة من هنا. لكن لا تخدع بمائها حتى لو كانت فرنسية. كنا نستلقي على طحالب صخر تلك البقعة الطافية المسماة جزيرة، ونأكل السندويشات. ننتهي من الغداء ثم نغطس ونلهو كأطفال.

أتذكر الآن وتبدو صور المشاهد بعيدة. مضى عامان على وصولي إلى هذه المدينة الفرنسية الصغيرة. عامان! هل تصدق؟ أنا نفسي لا أصدق. كأنها البارحة! إسمع. كيف وجدتَ البيتزا؟ هل أحضر لك بعض الزيت الحار لترميَه على سطحها؟ ثق بي. يترك مذاقاً طيباً. رش رش يا رجل. أكثرتُ لك الجبنة. صاحب المحل بخيل، لكني أزيد الجبنة من عندي. كُلْ. كُلْ.

في لبنان لم أكن أخرج كثيراً من منطقة الميناء. “بيروت” حتى بالكاد وطأتُها. أعرف فقط “الكولا”. يملك هناك قريب بعيد لي محطة للبنزين، وأعرف أيضاً “برج حمود”. فيها خَلقٌ كثيرون. على الأقل كانت الحال كذلك في زيارتي الأخيرة لتلك المنطقة. لساني لا ينسى مذاق سندويشاتهم الطيبة. ياه على السندويشات يا رجل. خرجْتُ من “طرابلس” إلى هنا وأنا ابن سبعة عشرة عاماً. ولدٌ لا يعرف “بيروت” يجد نفسه فجأةً في “فرنسا”. سامح الله أمي. لم تعلمني أن ألفّ سندويشة. لمدة أسبوعين أولين بقيتُهما هنا، ظللتُ آكل سندويش جبنة من تلك المطبوخة المعلبّة. أسبوعان! هل تصدق ذلك؟ كنتُ لمّا أتصل بهم، يسألونني عأحوالي، فأقول تمام. تسألني أمي ماذا آكل، فأروح أسرد لها أسماء طبخات فرنسية قرأتُها على لوائح الطعام المنصوبة خارج المطاعم، وأنا لم أذق إلا الجبنة. كنتُ أقتصد في المال لأنه كاد ينفذ. غلاء رهيب هنا يا رجل.

قلتُ حينها إنني أريد أن “أفلفل” رزّاً. وقفتُ خلف رفيق سكني المغربي، أحاول تعلم طريقة صنع الأرزّ. الملعون لم يرد أن يعلمني. أكثر من الخطوات. يروح ويجيء ويضع إصبعه في الوعاء لتحسس الأرز ثم يضيف الماء. فعلتُ عندها مثله، ولن تصدق كيف انتهى معي الأرز في النهاية: أرزّاً بماء! صرتُ أصفي منه الماء وأحاول تجفيفه لآكله!

في أيامي الأولى، كدتُ أصدق الأفلام العربية تلك التي تروي قصص شباب يضيعون في بلاد الغربة قبل أن أجدَ هذا العمل.

لكنّ كل ذلك بات من الماضي. اليوم، صرت أشهر طباخ بين رفاقي. يقصدونني لتذوق الأطباق اللبنانية، وإن كنتُ ما زلتُ غير راض على تتبيلة “السمكة حرّة” التي تخرج من بين يدي.

اليوم، أحمد الله على عملي في محل البيتزا هذا. صحيح أن صاحبه بخيل في الطعام لكنه طيب جداً معي. يقول إنني أذكّره بابنه الذي هاجر من فرنسا مع صاحبته. طلب مني حتّى أن أدير المحل لوقت كامل لأنه يريد أن يفتح فرعاً آخر في منطقة قريبة من هنا. رفضتُ رغم تأجيل دراستي هذا العام. إفهمني. لا أستطيع أن أدرس الطب وأشتغل. هناك مواد شبيهة بمواد التاريخ والجغرافية في منهاج الطب. كمية حفظ مهولة. سقطتُ في مادتين. لا أود أن أسقط عاماً آخر. سأعلـّق دراستي لسنة. سأكون بعدها مستعداً أن أكمل دراستي بخطى واثقة. بعد العام، سأكون قد جمعتُ مبلغاً محترماً من المال، وأستطيع عندها أن أنقص من ساعات عملي لصالح دراستي. لا أريد أن أتورّط كثيراً في هذا العمل. أحتاج شهادة لا مطعم بيتزا.

ياه يا رجل! لو أنني فقط أملك “فلوكة” كبيرة قوية، تقطع المتوسط! لو ملكتُها لكنتُ أبحرتُ فيها عائداً إلى “الميناء”. سأقضي هناك مدة قصيرة فقط، وأعود إلى هنا، فأنا ـ لسبب ما ـ لا أحب ذلك المكان إلا و… أنا خارجه!

ماذا؟ أنهيتَ صحنك؟ تريد حلوى بالشوكولاتة؟

سيدُ الحرب المتجهمُ، الذي يغزوه الرصاصُ، يجعلني أفكرُ بعدد أسياد الحروب المتواجد عندنا؟ أفكر بذلك وأعرف جازمًا أنهم أكثر من أن أعدهم على أصابع يديَّ، وقدميَّ .

“خلص، قررت!”. سأكتب غدًا روايةً افتراضيةً تنقصها العاطفةُ عن المدينة الميتة.

سأهدم بيروت فيها. بيروت الغربية فقط. لا أعرف بيروت الشرقية كما أعرف الغربية. وأنا لن أكتب إلا عما أحفظه، ولا أهدم إلا الأمكنة التي تعرفها قدماي حقَّ المعرفةِ. أنا لا أنتقم مما أجهل. لا يعني المستقبل شيئًا لي في رحلة الانتقام الخاصة هذه. الماضي والحاضر، هما ما يهماني. الواحد منا ينتقم من اللا مكتمل والمكروه أو من الجميل جدًا والفتَّان. أما أنا فلا يهم، في هذه العجالة، ممَّ أو ممَّن أنتقم.

كورنيش المزرعة، المنارة، الحمراء، كليمنصو، الكولا، المتحف، رأس النبع، برج أبي حيدر، الطريق الجديدة، قصقص، بربور، البسطة، النويري، البطركية، تلة الخياط، مار الياس، صبرا، الملاَّ، الدوارات، التقاطعات، المصلبيات..
كل ما سبق سيصبح ركامًا .

وسط بيروت. لـِمَ يقصف، يُهدَم، ثم يُعادُ إعمارُه؟ ثم يقصف، يُهدَم، ويُعادُ إعمارُه؟ ثم يقصف، يُهدَم، ويُعاد إعمارُه؟ ما هذه الرتابة؟

يُهدَمُ ولمرة أخيرة فقط.

المدينةُ خرابةٌ الآن. يغلب عليها اللونان الأسودُ والرماديُّ، ولا بأس بالقليل من الأحمر، ما دام بعيدًا عن مُحيَّاي. فوق، طيور بمناقير معكوفة تحجب السماء السوداء. تكاد أسرابُها تحجب لمعات البرق حتى. تحت، جثثٌ فائضةٌ من الباطن، وقوارضُ تقتات على لحمها المُشرَّع. بعضُ أعضاء الأجساد ظاهرة والأخرى مطمورةٌ. بعضها مُتصلِّبٌ والآخر مرتخٍ. يختلف الأمر من جسد لآخر. أحمرُ الأجساد يلطِّخ لونَ الخراب الرمادي في بعض الحالات، فيظهر غريبًا قويًّا. وفي حالات أخرى، يأخذ الدم يمتزج مع الرماد والتراب والغبار حتى يصبح أسودًا بدوره.

هنا مدينةٌ مفتوحةٌ للتجريب. تُجرَّبُ الأسلحةُ هنا. تدفع الشركةُ العالميةُ قدرًا للمال يتفاوت بحسب المساحة التي تطلبها، وبحسب نوعية الأسلحة التي تريد تجربتها.

أسلحة من كل الأنواع. الخفيف، المتوسِّط والثَّـقيل.

أسلحة من كل مكان: الولايات المتحدة الأميركية، المملكة المتحدة، فرنسا، إيطاليا، الأراضي المُـقدَّسة. النيوعراق، الجمهوريات والإمارات والممالك والخلافات الدينية الناشئة حديثًا…

مرحبًا بالجميع. مدينتنا مدينتكم، وكرهنا هو كرهكم.

موجز الأخبار المَحَـلِّيَّة؟ لا شيء جديداً. منذُ زمن بعيد لم يتغير شيءٌ يُذكَر، والنشراتُ تشكو من التكرار الرتيب:

حزبا الكتائب والقوات اللبنانية يعلنان استمرار عملياتهما المقاوِمة ضدَّ إسرائيل. الحزبُ القوميُّ السوريُّ الإجتماعيُّ يدعو لاحترام نهائية لبنان الكيان ويطالب بفتح ملفِّ اغتيال بشير جميل من جديد لإحالته على محكمة دولية. تيارُ المستقبل يطالب بالتحقيق في السياسات الاقتصادية منذ عام 1991 حتى عام 2005 ويطالب بالرأفة بقاتل رفيق الحريري. الحزبُ الشيوعيُّ اللبنانيُّ ينتقد في بيان للمكتب السياسيِّ من يهاجمون الهُويةَ اللبنانيةَ ويدعو لحماية السفارة الأمريكية من المندسين اللذين لا ينفكون يحاولون اقتحام السفارة، ويطالب باعتماد اللغة النيوفينيقية لغةً رسميةً أولى في البلاد. حزبُ الله يدعو لاحترام علاقات لبنان مع الدول الغربية الصديقة ويطالب بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الأخيرة المتعلِّقة بسيادة لبنان. حركة أمل تشكل لجنات من المحامين المتحزِّبين لديها في سياق الدعاوى التي تقوم بها لملاحقة الفاسدين في الإدارات الرسمية. بقايا اليسار المنفلت من الحزب الشيوعيِّ يطالب بمعاقبة كل من تموَّل خفيةً من قبل تيار المستقبل. الحزبُ التقدميُّ الاشتراكيُّ يهاجم عائلة جنبلاط الإقطاعية، من مقره في بعلبك…

لذا، لا داعي لنشرات الأخبار. تُلغى بقرار رئاسيٍّ يصدِّق عليه مجلسُ الوزراء مجتمعًا. أصلاً مجلسُ الوزراء لم يعد موجودًا وكل الحركات والتيارات والأحزاب المذكورة سابقًا ممنوعةٌ من ممارسة نشاطاتها في المدينة الرمادية الوليدة.

هذا بلدٌ يحتاج رأسًا واحدةً. وهكذا ستكون روايتي، برأس واحدة.

عبارات الممالأة الحبية ممنوعة من التداول هنا. للتأكد قبل استخدام أيِّ عبارة، الرجاء النظر في الدليل الأصفر المتوافر بكثرة على الرفوف الزجاجية بجانبك. العقوبة تتناقص كلما ثبت أكثر مدلول العبارة السياسي، الطوائفي، المناطقي، العشائري أو العائلي.

هنا، لا مكان للحب المناسباتي. إلعبوا بعيدًا. هنا، مطرح للتنفيس عن مكنونات القلب والعقل. للمشي، الرجاء سلوك الممرات الزجاجية المارة في أرض الجثث. تستطيعون رؤية التجارب. تستطيعون أن تُحدِّقوا بالجثث، جديدها وقديمها، ولن يَراكُم أحدٌ من هناك. أنتم فقط ترونهم.

أمامك على اليمين زرreplay، وبقربه الترجمة العربية: “كي لا تنسوا أن تكرهوا”. اكبس عليه عزيزي المتنزِّه واستحضر الخناقة، المعركة، المجزرة، أو الحرب التي دارت ذات يوم في المكان الذي تطل عليه الآن في الخارج. اكبس عليه لتنهض الجثث الإلكترونية الخضراء في الخارج وتُعيد تمثيلَ الحدث المطلوب لدقيقة واحدة. الرجاء الضغط مرةً أخرى على الزر ذاته إن أردْتُم إطالة مدة الحدث العنفيِّ الأخضر.

ثمَّ ينطلق صوتٌ من أحد المُكَبِّرات المثبَّتةِ بتكرارٍ محسوبٍ بعد كلِّ مئتي متر:

“أهلاً بكم. أنتم في بيروت. الإثارة. المتعة. التشويق.”

وتتكرر الجملةُ من جديد بفارق خمس ثوانٍ عن سابقتها وبالصوت نفسه.

“أهلاً بكم. أنتم في بيروت: الإثارة، المتعة، التشويق. (..) أهلاً بكم. أنتم في بيروت: الإثارة، المتعة، التشويق. (..) أهلاً بكم. أنتم في بيروت: الإثارة، المتعة، التشويق. (..) أهلاً بكم. أنتم في بيروت: الإثارة، المتعة، التشويق. (..) أهلاً بكم. أنتم في بيروت: الإثارة، المتعة، التشويق. (..) أهلاً بكم. أنتم في بيروت: الإثارة، المتعة، التشويق. (..) أهلاً بكم. أنتم في بيروت: الإثارة، المتعة، التشويق. (..) أهلاً بكم. أنتم في بيروت: الإثارة، المتعة، التشويق. (..) أهلاً بكم. أنتم في بيروت: الإثارة، المتعة، التشويق. (..)”

عندها، أتمشَّى أنا وديالا في الممرات الزجاجية. نهرب من عبارات المُكَبِّرات المُعادة فنحشو آذاننا برقائق إلكترونية تزودنا بعبارات مُمَوْسقة من “الليل والعين” بتدرجات عدة يغنيها مغني مستشرق ذو لهجة لبنانية ركيكة، لزوم اللعب على أوتار أحاسيسنا. نتفرَّج على كلِّ ذلك، ونسمع كلَّ ذلك، ونحن نأكل الفول بالكمون أو كوزيْن من الذرة المسلوقة. ونرى أخيرًا لافتاتٍ معلقةً أعلى الممرات الزجاجية تُعلن: “الرجاء عدم اصطحاب مُثَـقَّفي المدينة البائدة، حاملي داء النوستالجيا القاتل”.

يا ليل.. يا عين.. يا ليلللي. يا ليل. يا ليلي يا عيني..

يندفع جسدٌ حيٌّ باتجاه الزجاج من الخارج ويأخذ يدق عليه، فلا نسمع شيئًا ونتابع سيرَنا. ويبقى هو في الخارج، تجحظ عيناه للحظة، تمسح يداه زجاجَ الممر وهو يتهاوى، ثم تبخُّ الطوافة فوقه الكلس الأبيض لتبعد جحافل القوارض عما بقي منه.

ثم تخفت الصورة.

تـ.. خـ .. فـ.. ت.

* إستعادة من “ما رواه النوم”، الصادر عام 2008 الذي يشبه 2009 الذي يشبه 2010 الذي ربما سيشبه 2011.