نشرت القصة في مجلة “الطريق” الشهيرة التي تعاود الصدور. لمقالات أخرى نشرت في المجلة، إضغط هنا.

1

أكاد أشم الرائحة. تخرج مني. هذه رائحتي زائدةً كما لم تكن يوماً. كيف تضخّمت هكذا؟ أحاول أن أزحزح جسمي، فلا أقوى على تحريك أي طرف. تبقى الحركة فكرة. أمرٌ أرسِل ولم ينفّذ. وحده يتحرك من داخلي. أشعر به. سائل كثّ مقيت يندفع على مهل، فيبلّل جانبي والملاءة تحتي. أصوب نظري ناحيته، فلا أتبيّن لونه. الرؤية مشوّشة وأنا أفقدها ببطء. لا تستطيع عيناي اللحاق بسرعةِ ما يحدث حولي. حتى الثابت في الغرفة يصبح مشوشاً. أجرّب أن أصف لنفسي كيف وما أرى فلا أنجح، ثم سرعان ما أخسر اهتمامي بمحاولة الشرح. أبدأ بفقدان اللون. يأتيني كل شيء بألوان غريبة ثم بلونين ثم تروح الألوان وأحظى بألوان غريبة.

لكأن هذا السائل يخرج آخذاً معه كل شيء.

أحاول أن أتكلم فيصدر مني شيء يشبه الصفير. لا أفهم ما يخرج من ثغري. أشعر بحلقي جافاً. فارغاً. أشعر بما فيه، بل بكل ما في داخلي. أصبح يداً تدخل وتتحسس جوف جسمي. تقلّب ما فيه. تخرج ثم تعود لتحفر أكثر عمقاً. أرفع رأسي. للمرة الأولى أنجح في تحريك شيء فيَّ. أنظر نحو الباب. لا أعرف أنه الباب في البدء، فالألوان الغريبة قضت على قدرتي لتحديد أي شيء، والتشويش مستمر. لعلي لا أرى بل أصِل ما أعرف وأتذكر بقليل ما أرى وأحدد الأشياء؟ لا أستفيض في الشرح لنفسي. أجده يخرج إليّ من اللا رؤية، من دون أن أعرف كيف. أشعر بالجليد للمرة الأولى، ثم تنتابني حركة عنيفة. يتحرك جسمي كله بأوتوماتيكية غريبة. أرتجّ، وتتغير طريقة خروج السائل مني. لكأنني غسالة أوتوماتكية تعمل في مرحلة التنشيف. ملاحظة تحيلني إلى انتباه أخير: هل أخرجت الملابس من الغسالة لنشرها، أم أنها لا تزال تقبع هناك؟

لا أقوى على الضحك ولا حتى على الابتسام.

2

الباب موارب، يُظهر ضوءاً خافتاً وراءه. على الأرض مساحة سوداء من الظل تمتد حتى حافة السجادة العجميّة.

لم يحرك قدميه منذ ربع ساعة. جلس هناك تضربه فوضى أفكاره. سياط، سياط. ورغم كل هذا الهجوم، لم يتحرك قيد أنملة. فقط تحركت عيناه، رغم ثبات وجهه. كان مُنحني الظهر على الكنبة، يراقب ظلّ الباب يتوسع حتى كاد يلمس قدميه. ضوء الخارج الذي أخذ يخفت دقيقة إثر أخرى غيَّر من ضوء الداخل، بل وضَّحه، ومع الإيضاح أظلمت المساحة المظللة أكثر.

أخذ يحدّق في الباب ملياً. لم يغلقه. لم يغلق وراءه باباً يوماً. يترك دائماً الأبواب مفتوحة. لا، يتركها مواربة. الموارِب ليس مشرعاً. الموارب ليس مغلقاً. لا يفكر لماذا لم يغلق الباب ولا كيف همد هنا على الكنبة بلا حراك. لا يفكر حتى بالضجة الآتية من الخارج. نعم. يلاحظ خفوتها مع قدوم الليل. نعم. يحدس أن الشارع يغيِّر صوته بتتالي ساعات النهار. نعم. ينتبه لكل ذلك من مكانه، ولكنه لا يفكر. الانتباه ليس تفكيراً. الملاحظة تظهر فجأة في الرأس. تنفجر بلا تحليل مسبق. أما التفكير فيأخذ الملاحظة ويمعن فيها تشريحاً. وهو لا يفعل ذلك الآن. لا يتعدى انتباهاته إلى شرحها. يلاحظ فقط من دون أن يسائل كيف لاحظ.

يستعيد. يسترجع ما حدث كحقيقة مثبتة. يقول لتلاميذه: “الحقيقة غير النظرية، والنظرية غير الفرضية. والاثبات فقط ما يجعل النظرية حقيقة”. يرد عليه طالب لجوج: “الآراء تأتي مع إثباتات وهذه لا تجعلها حقيقة بل تبقى آراءً رغم قوة الإثباتات”. يبتسم له ناهراً مذكراً أن هذه حصة علوم. يعرف في داخله أنه معجب بالفتى، ويتيقن أنه سينتهي دارساً للعلوم السياسية.

لكن الاستعادة تبقى استعادة، وهي أيضاً غير التفكير. لقطة تبقى بكل تفاصيلها ثابتة. هو لم يتعدى على الذكرى. لم يغير شيئاً فيها. لم يضف إليها لا عواطفه المثبتة، ولا غير المثبتة.

يواصل استعاداته. تمثل أمامه لقطات من البارحة: كتف المار على الرصيف الذي خبط به صدفة، وفم الناشطة التي تحث من يقترب منها على التوقيع، وابتسامة عاملة الكاشيير في السوبرماركت. تحضره شتائم شرطي السير الواقف على التقاطع القريب والذي لا يكف عن التلويح للسيارات بالاسراع في المرور. يسمع صوتاً. هل هذا صوت صفارة الشرطي؟ أم هذا تشويش من مصدر آخر؟ يأبى أن يتمادى في طرح سؤاله، فلا يكمله حتى. لا يفكر.

في رأسه، تعدو الأفكار تماماً مثل خط سير في شارع داخلي من شوارع بيروت، إشاراته الضوئية لا تعمل. كل السيارات فيه تنطلق في الوقت نفسه على إثر إشارة ما. قال مرة لتلاميذه في حصة العلوم إنّ الخلق أشبه بـِعَدْو سير. الحيوانات المنوية تهجم كلها في اتجاه واحد. بعضها يسقط في الطريق، والبعض الآخر يتعبه اللهاث فلا يلحق بأخوته، والآخرون يصلون كلهم. يتدافعون، يجرب أكثر من واحد حظه وواحد فقط يحظى بالهدف.

لو يقدر لفتح رأسه على الطاولة وفكر كيف أفضى به الأمر إلى هذه الخاتمة. هل هي الخاتمة حقاً أم خلق جديد؟ لو استطاع أن يقنع نفسه لقال أنه الآن داخل رأسه. لقال إنّ شيئاً لم يحدث. لقال إنّ كل هذا محض تهويمات مريضة يمر بها أكثر من إنسان في نهارات عادية.

الآن فقط، بدأ يفكر. الآن فقط، اقتنع. هذه ولادته الجديدة. نهاية أولى تتبعها نهايات. هذه فكرته الوحيدة، وصل إليها أخيراً. يتمسّك بها، ويتخلى عن الملاحظات والاستعادات. يلقي السؤاله في بئر رأسه: هل من التقاهم في الطريق البارحة جرؤوا يوماً ما على فعل ما فعله هو؟ يطرح السؤال ثم سرعان ما ينتشله من البئر. فجأة، يصير أكيداً أن الأمر يتعلق به لا بالآخرين. “هذا أنت”، يبدأ يحدث نفسه. الآن فقط، وللمرة الأولى منذ ثباته هنا على هذه الكنبة، يعترف لنفسه: “أنا من ارتكبت جريمة القتل على السرير خلف ذاك الباب الموارب”.

ينظر إلى سلاح الجريمة الموضوع أمامه على المنضدة، ثمّ ومن دون أن يطبق عليه الذهول، ينهض ويتجه ناحية الباب. يشقه فقط بالقدر اليسير الذي يمكنه من الولوج إلى الداخل. لقد وصل. لا. لقد عاد. ثم، وبحركة من يده اليمنى، ومن دون أن يلتفت، يدفع الباب وراءه. يستجيب الباب (للمرة الأولى؟) استجابةً كاملة، فتنقتل وراءه مساحة الظل الممتدة حتى أطراف السجادة، ويغلق رأسه على فكرة.

3

أراه من فوق يقف عند المدخل. ينظر إلي كما لم يفعل يوماً. لا أعرف بمَ يفكر. لم أعرف يوماً، ولن أعرف الآن. أراه في خطواته متردداً ثم حازماً. من هنا، أستطيع أن أفهم الخطوات أكثر. أحاول أن أتدخل فلا أنجح. لعل هذا غير مسموح؟ أحاول مرة أخرى فأفشل من جديد. فلا أقدر في النهاية إلا على فعل وحيد. أبثّ في رأسه فكرة:

– شفت ما أحلاني أنا وميتة؟

أرى قدميه تتوقفان عن الخطو. يجمد لثوانٍ ليست قليلة. أتابعه في بعضها قبل أن أقرر الانصراف إلى فوق.

أقول لنفسي: منذ الآن، سأكتفي بالاستعادة.